المارد الابيض
ستار جديد
حال الرياضة في مصر الآن.. أندية لا مبرر لوجودها
وفساد يستشري وتطوع زائف
بعد أربع وعشرين ساعة فقط.. تبدأ أعمال واجتماعات مؤتمر منتدي دافوس الاقتصادي الدولي في شرم الشيخ.. وبعدما كتبت كثيرا عن هذا المؤتمر وعن بداية اهتمامه بالرياضة ووضع مفرداتها وملامحها في ملفات المنتدي للاقتصاد والسياسة والمجتمع.. وعن ضرورة أن تلتفت مصر لهذا التوجه الرياضي الجديد الذي بدأ في دافوس خاصة أن المؤتمر يقام هذه المرة علي أرضها وفي ضيافتها.. كنت أنا الذي تلقيت الدعوة للذهاب إلي شرم الشيخ وليست الرياضة.. سأحضر أنا وكثيرون غيري ولكن لن تحضر الرياضة.. لأن الحكومة المصرية لا تزال عاجزة عن الاعتراف بالرياضة وعن فهم طبيعة وضرورة أدوارها ودلالاتها..
ولست أريد التكرار وممارسة الإزعاج بالإلحاح فأعاود كتابة ما جري في دافوس في شهر يناير الماضي وما الذي قاله كوفي أنان أمين عام الأمم المتحدة.. وجاك روج رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية.. وجوزيف بلاتر رئيس الفيفا.. وزعماء السياسة وخبراء الاقتصاد عن الرياضة واللجوء إليها والاستعانة بها في البحث عن حلول لكثير من أوجاعنا الاقتصادية والاجتماعية.. وبدلا من التكرار والإعادة وإلقاء اللوم والعتاب كالعادة علي الدكتور أحمد نظيف كرئيس للحكومة ومعه كل وزرائها
رغم أنهم ليسوا مسئولين بشكل رئيسي ومباشر عن فساد حالي تعيشه الرياضة في مصر.. وليسوا هم أول من أفسدها وغيبها.. ظننت أنه قد يكون أكثر ضرورة لو انتبهنا كلنا إلي واقعنا الرياضي في مصر وأعدنا تأمله دون حساسيات ومجاملات أو خوف وخجل.. فالرياضة لم تغب عن مؤتمر شرم الشيخ إلا لأنها من ناحية تحولت إلي سلعة قديمة وبالية انتهت فترة صلاحيتها للاستخدام الآدمي والمجتمعي.. ولأنها من ناحية أخري غابت تماما عن فكر ورؤي إدارات مصرية عديدة ووزارات وهيئات ومؤسسات عجزت عن أن تفهم وخجلت من أن تسأل عن الرياضة ومعناها وقيمتها
وأبدأ بالرياضة التي تحولت إلي سلعة منتهية الصلاحية.. ولا أجد أفضل ما أبدأ به إلا حديثا قصيرا وموجعا عن اختراع اسمه الحافز الرياضي.. وهو أن نمنح امتيازا خاصا للمتفوقين رياضيا من أولادنا وبناتنا فنكافئهم بدرجات إضافية في الشهادات الدراسية.. فكرة علي الورق تبدو جميلة ونبيلة ولكنها في الواقع لا علاقة لها بالتعليم ولا بالرياضة أيضا.. لأن الدولة.. أية دولة.. تريد من كل طفل فيها أن يمارس الرياضة.. تريد الدولة ذلك لسببين.. الأول شخصي وهو ما تنفع به الرياضة كل من يمارسها من صحة وانتظام واستقرار نفسي وعقلي واجتماعي..
والثاني هو أنه يبقي ممكنا أن يخرج من بين هؤلاء الأطفال من يحقق لها وباسمها بطولات وانتصارات عالمية تستفيد بها الدولة إعلاميا ودعائيا.. والسبب الأول ليست الدولة مطالبة بالتعويض عنه والمكافأة عليه.. أما السبب الثاني فهو يحتمل العديد من وجهات النظر.. فلا أحد بإمكانه أن يعترض علي مكافأة هؤلاء المتميزين إن حققوا انتصارات رياضية حقيقية باسم مصر علي المسرح الرياضي العالمي أو الأفريقي أو العربي.. ولكنني لا أفهم لماذا نمنح هذه الدرجات الإضافية لمن شارك في بطولة محلية أو حتي فاز بها..
حتي تحول الأمر إلي مستنقع جديد لفساد حقيقي غرقت فيه الرياضة في مصر.. وأصبح الاتجار بهذا الحافز مهنة مربحة في مختلف المدن والأندية مصر كلها.. وأصبح هناك عديد من أولياء أمور ليسوا مضطرين للإنفاق علي الدروس الخصوصية لأبنائهم في الثانوية العامة..
وبدلا من ذلك يشترون ست عشرة درجة إضافية في المجموع بخمسة عشر ألف جنيه يدفعونها للمسئولين الصغار في مختلف الأندية والقائمين علي أمور اللعبات فيها.. وقد كتبت كثيرا عن هذا الفساد وهذا الحافز الرياضي الذي أفسد الرياضة في صفوف الناشئين في مختلف الأندية المصرية وأفسد كل بطولات الجمهورية في مختلف اللعبات وأحالها إلي مسرحيات هزلية وعبثية.. حتي استجاب أخيرا الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي وبدأ التفكير بالفعل في الغاء هذا الحافز.. ورغم الحرب الشرسة التي أتوقع أن يواجهها هاني هلال من أنصار الفساد وتجار الحافز الرياضي فإنه يبقي باستطاعتي المراهنة علي هذا الرجل الذي لا أنسي مشهده وهو أستاذ لهندسة المناجم في جامعة القاهرة وراح ليحلف يمين الوزارة بسيارته البيجو التي كانت نشازا وسط سيارات فارهة وفاخرة لوزراء آخرين ورجال أعمال كبار..
وأتمني ألا يتراجع الدكتور هاني عن موقف ه وألا يستسلم مهما كانت الضغوط
مشهد آخر ولكن يؤكد أيضا تحول الرياضة في بلادنا إلي سلعة منتهية الصلاحية هو مشهد الأهلي والزمالك.. ولأنه لم يعد يستهويني أن أجلس في مقاعد المتفرجين أشاهد معهم علي خشبة المسرح الرياضي ـ والسياسي أيضا ـ عرضا رديئا يقدمه فريقان يتنافسان علي بطولة العرض.. فريق يجري هربا من فضائح يخاف أن تلحقه.. وفريق آخر يسعي وراء مكاسب ومغانم يخاف ألا يلحقها.. فلابد من مواجهة الواقع بكل حقائقه..
فنحن نشكو من ظاهرة انفراد الأهلي والزمالك بالرياضة وكرة القدم تحديدا منذ خمسين عاما علي الأقل.. نشكو فنكتب ونقرأ ونغضب فنصرخ ونشتم ونلعن.. ثم نعود آخر النهار ونستمتع بمباراة للأهلي أو للزمالك أو بمباراة للناديين معا.. وكأننا نهرب من الحقيقة ونخاف مواجهتها.. والحقيقة باختصار هي أننا نحن الذين صنعنا بأنفسنا الأهلي والزمالك ورفضنا بدأب وإصرار أن تكون هناك أية أندية أخري.. أو كأننا رضينا بألا تملك مصر أندية حقيقية إلا الأهلي والزمالك.. ففتحنا الأبواب كلها لأندية أخري ليست حقيقية وليست جماهيرية ولن تكون أبدا.. فأنا لا أفهم لماذا يكون للجيش ناد أو أندية تلعب الكرة وسط أندية المحترفين.. أو أندية للشرطة.. أو لوزارة البترول وشركاتها.. أو لشركات الأسمنت..
فكل هذه الهيئات سواء كانت عامة أو خاصة.. ليس من المفترض أن تمتلك أندية تلعب في الدوري الممتاز أو الدوري الضعيف لأية لعبة.. ليس هذا هو دورها ولا هذا هو المطلوب منها.. وليس هذا فقط.. وإنما لم يكن من اللائق أن تمتلك هيئة قناة السويس ناديا خاصا بها.. ولا شركة غزل المحلة.. ولا المقاولون العرب أو الكروم أو البلاستيك أو مصنع36 أو أية شركة وأي مصنع آخر.. فهذا كله عبث وغياب رؤية وضياع فهم لمعني الرياضة..
وهؤلاء جميعهم شاركوا في إفساد الرياضة المصرية وضياع كل فرصة لأن تمتلك مصر أندية حقيقية.. والمنطق الذي يستند إليه هؤلاء ـ باستثناء الجيش والشرطة ـ هو الرغبة في الدعاية والإعلان عن أنفسهم من خلال أندية رياضية وفرق لكرة القدم.. وهو منطق مريض وساذج وخاطئ أيضا.. فهو من ناحية يعري حقيقة فهمنا للرياضة وللكرة وعلي أننا لا نري فيها إلا مجرد نافذة ووسيلة للدعاية.. وهو من ناحية أخري تجسيد لسوء استخدام السلطة والمال في كل هذه الشركات والمؤسسات والهيئات والوزارات.. وقد شاهدنا في العالم كله شركات اقتصادية كبري تملك الملايين والمليارات وتنفق الكثير علي الدعاية والإعلان دون أي تفكير في تأسيس أي ناد رياضي
اللهم إلا بعض المنتديات للترفيه عن أبنائها ليس أكثر.. لا بيبسي ولا كوكاكولا أو فودافون أو مرسيدس أو أية شركة كبري أخري امتلكت ناديا باسمها.. ولكنها فقط ممكن أن تختار أندية تعلن بها عن نفسها..
وهو ما كان من الممكن أن تقوم به هيئة قناة السويس أو المقاولون العرب مع النادي الإسماعيلي.. وشركات الكروم وغيرها مع الاتحاد السكندري.. وشركات الغزل والنسيج مع طنطا أو بلدية المحلة.. وشركات الأسمنت مع فريق كان سيلتف حوله كل أبناء أسيوط وكل أبناء السويس بدلا من هذا العبث وخلط الأوراق.. ولم تكن وزارة البترول في حاجة لإنفاق كل هذه الأموال من أجل نادي إنبي ولا لكل هذه الفرحة من أجل تأهل ناد بترولي جديد.. فإنبي ليست شركة تنزل السوق وتتعامل يوميا مع المواطن المصري الغلبان فتحتاج لأن تمتلك ناديا بإسمها ليبقي في ذاكرة الناس.. وقد كان من الممكن أن تبني وزارة البترول ملعبا في البحر الأحمر وتشجع الناس العاديين والمقيمين هناك لأن يؤسسوا ناديا شعبيا لهم يلعب مع كبار نوادي القاهرة وغيرها.. أو أن تحرص وزارة البترول بأموالها الكثيرة والفائضة علي أن تنفق علي مجالات ودراسات رياضية تحتاجها مصر ولا تجد تمويلا كافيا لها..
ولا أقول ذلك نتيجة خلاف شخصي بل علي العكس.. أظن أنه بإمكاني اعتبار المهندس سامح فهمي صديقا عزيزا ولكن هناك أمور وواجبات أهم من الصداقة وأبقي من المعزة.. وبنفس المنطق لا أفهم كيف يمكن للجيش أن يمتلك ناديا أو أكثر تلعب كرة القدم بلاعبين محترفين قابلين للبيع وللشراء.. أو تؤسس الشرطة أندية تخوض منافسات بإسمها في مسابقات مختلف اللعبات.. فما هو الداع لكل ذلك..
هل هي الرغبة في الظهور والوجود رغم عدم الاحتياج لذلك.. أم أنه تصور خاطئ لمفهوم الاهتمام بالرياضة تماما مثل هذه البطولات الوهمية السخيفة المسماة ببطولة الشركات والتي تقام كل عام.. أو بطولة وهمية أخري للجامعات المصرية.. وقد كانت ـ ولا تزال ـ بطولة الشركات.. مثلها مثل بطولة الجامعات.. هي أحد الأخطاء المسكوت عنها في الإعلام الرياضي المصري.. تماما مثل استاد القاهرة ومنشآت أخري كثيرة أقمناها بالكثير جدا من أموالنا القليلة ثم تركناها ضحية للإهمال واللامبالاة وللفساد أيضا..
وأود التوقف هنا عند رأي سمعته من هاني شكري.. عضو المجلس القومي للرياضة.. والذي أوكل إليه المجلس وضع تصور لاستثمار جديد للرياضة في مصر يقوم ـ لأول مرة في مصر ـ علي العلم والحقائق والأرقام وليس الأوهام والجهل والدجل.. وقال هاني إن استاد القاهرة علي سبيل المثال.. هو وديعة للمجتمع المصري كله جمعها من مدخراته القليلة ويبلغ حجمها ألفا وخمسمائة مليون جنيه.. وبحسبة بسيطة.. فلابد أن يقبض هذا المجتمع المصري من هذه الوديعة قرابة مائة وخمسين مليون جنيها كأرباح وفوائد كل عام.. وهو أمر ممكن لو تغيرت مفاهيم ونظم الإدارة في هيئة الاستاد.. ولكن هناك من يودون الإبقاء علي هذا الوضع الخاطئ.. أو هذه الجريمة..
حتي تختنق ميزانية الدولة يوما فتقرر الاستغناء عن استاد القاهرة وتعرضه للبيع.. وسيكون هذا خطأ أكبر وأكثر فداحة لأن المصريين حينئذ سيكتشفون أنهم تعرضوا للنصب.. فلا الوديعة جاءتهم بفوائد وأرباح طيلة سنين مضت ثم يكتشفون أنهم في النهاية خسروا حتي رأس مالهم الذي امتلكوه بعد الكثير من التضحية والتعب..
وأنا سعيد جدا بما يطرحه هاني شكري.. فهو طرح جديد ومحترم.. ومختلف أيضا.. وتأتي أهمية هذا الاختلاف في أن البعض منا لا يزال يتشبث بأفكار قديمة وبالية.. مثل حكاية الهواة والمتطوعين الذين نأتي بهم ليديروا اتحادات وأندية بميزانيات ضخمة جدا..
وهو ما لم يعد موجودا في العالم كله.. ففي أوروبا.. يتم انتخاب رئيس لاتحاد الكرة أو أية لعبة.. أو رئيس لناد.. فيتسلم منصبه بعد أن يترك أعماله الأخري ويتفرغ لمهمته الجديدة التي يتقاضي عنها راتبا يكفيه ويرضيه.. ويصبح مسئولا أمام الناس عن لعبته ويمنحها كل وقته واهتمامه..
أما نحن.. فلا نزال نخلط بين الهواية والاحتراف.. وكأن إدارة كرة القدم في مصر لا ترقي لأن تكون مهنة يتفرغ لها رئيس يدير شئونها ويرعي أمورها وليست علي هامش اهتمامات وأعمال أي رجل يصبح رئيسا لاتحاد مصر لكرة القدم.. أو كأن الأهلي والزمالك سيعجزان عن دفع راتب لأي رئيس يأتي بالانتخاب فيتفرغ.. فإدارة الأهلي أو الزمالك تستحق التفرغ وتستحق أن تصبح مهنة قائمة بذاتها.. وليست هواية أو تطوعا أو مهمة يقوم بها أحدهم فقط في أوقات فراغه من أعماله الأصلية.. فأنا لم أعد مؤمنا أو مقتنعا بمثل هذا التطوع الكاذب.. وأسعي إلي تقنينه وضبط أموره ورقابته أيضا.. وأندهش من مثل هذا التزاحم والاندفاع ـ إلي حد الاقتتال أحيانا ـ علي مناصب ومقاعد مفروض أنها تطوعية لا فائدة أو مكاسب حقيقية من ورائها.. وأظن أن كل هذا ـ وغير هذا ـ أخطاء فادحة دفعت ولا تزال تدفع ثمنها الرياضة في مصر..
وبسببها بقيت الرياضة المصرية سلعة غير قابلة للاستهلاك وبضاعة أتلفها الهوي والانتهازية والمجاملات والمصالح والفساد المستشري في كل مكان
أما الجانب الآخر من الصورة.. والخاص بغياب الرياضة عن عقل وفكر كثير من المسئولين في مصر.. فهو بالضبط الذي يجسده غياب الرياضة عن اجتماعات ديفوس في شرم الشيخ.. فالمهندس رشيد محمد رشيد.. كوزير للتجارة والصناعة ومسئول أول عن ترتيبات استضافة مصر لهذا المؤتمر.. لم يكلف نفسه عناء متابعة التطورات الأخيرة للمنتدي الدولي الذي اعترف أخيرا بالرياضة وأهميتها واعتذر لها علنا عن مثل هذا الغياب الطويل.. وغابت الرياضة أيضا عن وزارة الخارجية المصرية التي لا تملك بعد إدارة للرياضة والديبلوماسية مثلها مثل كل الوزارات المماثلة في العالم من حولنا.. وبالتأكيد لا يزال الدكتور أحمد نظيف رئيس وزراء مصر.. يترفع ويتأفف من أي حديث عن الرياضة خوفا من أن تهتز صورته أمام الناس ويفقد بعض احترامهم وتقديرهم له إذا تم ضبطه متلبسا بالحديث عن هذا الأمر التافه والحقير الذي اسمه الرياضة.. رغم أنني لا أزال مدينا بكثير من الاحترام والامتنان للسيدة إيزابيل تورناريه.. مديرة الإعلام في منتدي ديفوس الاقتصادي.. والتي حين اتصلت بي تدعوني إلي فنجان قهوة واجتماع قصير في شرم الشيخ ـ مع صحفيين آخرين ـ مع أردوجان رئيس الوزراء التركي..
واجتماع ثان مع شوكت عزيز رئيس الوزراء الباكستاني.. طلبت منها ترتيب حوار مستقل مع كل منهما عن الرياضة والسياسة والتنمية في بلاده.. وفي أقل من ساعتين جاء الرد بالقبول والموافقة والاهتمام أيضا.. لم يبد أي من المسئولين الكبيرين.. في تركيا أو باكستان.. أية دهشة أو استغراب من دعوة للحديث وللتحاور عن وفي الرياضة.. بعكس ما يحدث كل يوم في بلادنا التي بقيت تلعب ولكن فاتها أن تتعلم وأن تعرف وتفهم لماذا وكيف وأين ومتي تلعب.
وفساد يستشري وتطوع زائف
بعد أربع وعشرين ساعة فقط.. تبدأ أعمال واجتماعات مؤتمر منتدي دافوس الاقتصادي الدولي في شرم الشيخ.. وبعدما كتبت كثيرا عن هذا المؤتمر وعن بداية اهتمامه بالرياضة ووضع مفرداتها وملامحها في ملفات المنتدي للاقتصاد والسياسة والمجتمع.. وعن ضرورة أن تلتفت مصر لهذا التوجه الرياضي الجديد الذي بدأ في دافوس خاصة أن المؤتمر يقام هذه المرة علي أرضها وفي ضيافتها.. كنت أنا الذي تلقيت الدعوة للذهاب إلي شرم الشيخ وليست الرياضة.. سأحضر أنا وكثيرون غيري ولكن لن تحضر الرياضة.. لأن الحكومة المصرية لا تزال عاجزة عن الاعتراف بالرياضة وعن فهم طبيعة وضرورة أدوارها ودلالاتها..
ولست أريد التكرار وممارسة الإزعاج بالإلحاح فأعاود كتابة ما جري في دافوس في شهر يناير الماضي وما الذي قاله كوفي أنان أمين عام الأمم المتحدة.. وجاك روج رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية.. وجوزيف بلاتر رئيس الفيفا.. وزعماء السياسة وخبراء الاقتصاد عن الرياضة واللجوء إليها والاستعانة بها في البحث عن حلول لكثير من أوجاعنا الاقتصادية والاجتماعية.. وبدلا من التكرار والإعادة وإلقاء اللوم والعتاب كالعادة علي الدكتور أحمد نظيف كرئيس للحكومة ومعه كل وزرائها
رغم أنهم ليسوا مسئولين بشكل رئيسي ومباشر عن فساد حالي تعيشه الرياضة في مصر.. وليسوا هم أول من أفسدها وغيبها.. ظننت أنه قد يكون أكثر ضرورة لو انتبهنا كلنا إلي واقعنا الرياضي في مصر وأعدنا تأمله دون حساسيات ومجاملات أو خوف وخجل.. فالرياضة لم تغب عن مؤتمر شرم الشيخ إلا لأنها من ناحية تحولت إلي سلعة قديمة وبالية انتهت فترة صلاحيتها للاستخدام الآدمي والمجتمعي.. ولأنها من ناحية أخري غابت تماما عن فكر ورؤي إدارات مصرية عديدة ووزارات وهيئات ومؤسسات عجزت عن أن تفهم وخجلت من أن تسأل عن الرياضة ومعناها وقيمتها
وأبدأ بالرياضة التي تحولت إلي سلعة منتهية الصلاحية.. ولا أجد أفضل ما أبدأ به إلا حديثا قصيرا وموجعا عن اختراع اسمه الحافز الرياضي.. وهو أن نمنح امتيازا خاصا للمتفوقين رياضيا من أولادنا وبناتنا فنكافئهم بدرجات إضافية في الشهادات الدراسية.. فكرة علي الورق تبدو جميلة ونبيلة ولكنها في الواقع لا علاقة لها بالتعليم ولا بالرياضة أيضا.. لأن الدولة.. أية دولة.. تريد من كل طفل فيها أن يمارس الرياضة.. تريد الدولة ذلك لسببين.. الأول شخصي وهو ما تنفع به الرياضة كل من يمارسها من صحة وانتظام واستقرار نفسي وعقلي واجتماعي..
والثاني هو أنه يبقي ممكنا أن يخرج من بين هؤلاء الأطفال من يحقق لها وباسمها بطولات وانتصارات عالمية تستفيد بها الدولة إعلاميا ودعائيا.. والسبب الأول ليست الدولة مطالبة بالتعويض عنه والمكافأة عليه.. أما السبب الثاني فهو يحتمل العديد من وجهات النظر.. فلا أحد بإمكانه أن يعترض علي مكافأة هؤلاء المتميزين إن حققوا انتصارات رياضية حقيقية باسم مصر علي المسرح الرياضي العالمي أو الأفريقي أو العربي.. ولكنني لا أفهم لماذا نمنح هذه الدرجات الإضافية لمن شارك في بطولة محلية أو حتي فاز بها..
حتي تحول الأمر إلي مستنقع جديد لفساد حقيقي غرقت فيه الرياضة في مصر.. وأصبح الاتجار بهذا الحافز مهنة مربحة في مختلف المدن والأندية مصر كلها.. وأصبح هناك عديد من أولياء أمور ليسوا مضطرين للإنفاق علي الدروس الخصوصية لأبنائهم في الثانوية العامة..
وبدلا من ذلك يشترون ست عشرة درجة إضافية في المجموع بخمسة عشر ألف جنيه يدفعونها للمسئولين الصغار في مختلف الأندية والقائمين علي أمور اللعبات فيها.. وقد كتبت كثيرا عن هذا الفساد وهذا الحافز الرياضي الذي أفسد الرياضة في صفوف الناشئين في مختلف الأندية المصرية وأفسد كل بطولات الجمهورية في مختلف اللعبات وأحالها إلي مسرحيات هزلية وعبثية.. حتي استجاب أخيرا الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي وبدأ التفكير بالفعل في الغاء هذا الحافز.. ورغم الحرب الشرسة التي أتوقع أن يواجهها هاني هلال من أنصار الفساد وتجار الحافز الرياضي فإنه يبقي باستطاعتي المراهنة علي هذا الرجل الذي لا أنسي مشهده وهو أستاذ لهندسة المناجم في جامعة القاهرة وراح ليحلف يمين الوزارة بسيارته البيجو التي كانت نشازا وسط سيارات فارهة وفاخرة لوزراء آخرين ورجال أعمال كبار..
وأتمني ألا يتراجع الدكتور هاني عن موقف ه وألا يستسلم مهما كانت الضغوط
مشهد آخر ولكن يؤكد أيضا تحول الرياضة في بلادنا إلي سلعة منتهية الصلاحية هو مشهد الأهلي والزمالك.. ولأنه لم يعد يستهويني أن أجلس في مقاعد المتفرجين أشاهد معهم علي خشبة المسرح الرياضي ـ والسياسي أيضا ـ عرضا رديئا يقدمه فريقان يتنافسان علي بطولة العرض.. فريق يجري هربا من فضائح يخاف أن تلحقه.. وفريق آخر يسعي وراء مكاسب ومغانم يخاف ألا يلحقها.. فلابد من مواجهة الواقع بكل حقائقه..
فنحن نشكو من ظاهرة انفراد الأهلي والزمالك بالرياضة وكرة القدم تحديدا منذ خمسين عاما علي الأقل.. نشكو فنكتب ونقرأ ونغضب فنصرخ ونشتم ونلعن.. ثم نعود آخر النهار ونستمتع بمباراة للأهلي أو للزمالك أو بمباراة للناديين معا.. وكأننا نهرب من الحقيقة ونخاف مواجهتها.. والحقيقة باختصار هي أننا نحن الذين صنعنا بأنفسنا الأهلي والزمالك ورفضنا بدأب وإصرار أن تكون هناك أية أندية أخري.. أو كأننا رضينا بألا تملك مصر أندية حقيقية إلا الأهلي والزمالك.. ففتحنا الأبواب كلها لأندية أخري ليست حقيقية وليست جماهيرية ولن تكون أبدا.. فأنا لا أفهم لماذا يكون للجيش ناد أو أندية تلعب الكرة وسط أندية المحترفين.. أو أندية للشرطة.. أو لوزارة البترول وشركاتها.. أو لشركات الأسمنت..
فكل هذه الهيئات سواء كانت عامة أو خاصة.. ليس من المفترض أن تمتلك أندية تلعب في الدوري الممتاز أو الدوري الضعيف لأية لعبة.. ليس هذا هو دورها ولا هذا هو المطلوب منها.. وليس هذا فقط.. وإنما لم يكن من اللائق أن تمتلك هيئة قناة السويس ناديا خاصا بها.. ولا شركة غزل المحلة.. ولا المقاولون العرب أو الكروم أو البلاستيك أو مصنع36 أو أية شركة وأي مصنع آخر.. فهذا كله عبث وغياب رؤية وضياع فهم لمعني الرياضة..
وهؤلاء جميعهم شاركوا في إفساد الرياضة المصرية وضياع كل فرصة لأن تمتلك مصر أندية حقيقية.. والمنطق الذي يستند إليه هؤلاء ـ باستثناء الجيش والشرطة ـ هو الرغبة في الدعاية والإعلان عن أنفسهم من خلال أندية رياضية وفرق لكرة القدم.. وهو منطق مريض وساذج وخاطئ أيضا.. فهو من ناحية يعري حقيقة فهمنا للرياضة وللكرة وعلي أننا لا نري فيها إلا مجرد نافذة ووسيلة للدعاية.. وهو من ناحية أخري تجسيد لسوء استخدام السلطة والمال في كل هذه الشركات والمؤسسات والهيئات والوزارات.. وقد شاهدنا في العالم كله شركات اقتصادية كبري تملك الملايين والمليارات وتنفق الكثير علي الدعاية والإعلان دون أي تفكير في تأسيس أي ناد رياضي
اللهم إلا بعض المنتديات للترفيه عن أبنائها ليس أكثر.. لا بيبسي ولا كوكاكولا أو فودافون أو مرسيدس أو أية شركة كبري أخري امتلكت ناديا باسمها.. ولكنها فقط ممكن أن تختار أندية تعلن بها عن نفسها..
وهو ما كان من الممكن أن تقوم به هيئة قناة السويس أو المقاولون العرب مع النادي الإسماعيلي.. وشركات الكروم وغيرها مع الاتحاد السكندري.. وشركات الغزل والنسيج مع طنطا أو بلدية المحلة.. وشركات الأسمنت مع فريق كان سيلتف حوله كل أبناء أسيوط وكل أبناء السويس بدلا من هذا العبث وخلط الأوراق.. ولم تكن وزارة البترول في حاجة لإنفاق كل هذه الأموال من أجل نادي إنبي ولا لكل هذه الفرحة من أجل تأهل ناد بترولي جديد.. فإنبي ليست شركة تنزل السوق وتتعامل يوميا مع المواطن المصري الغلبان فتحتاج لأن تمتلك ناديا بإسمها ليبقي في ذاكرة الناس.. وقد كان من الممكن أن تبني وزارة البترول ملعبا في البحر الأحمر وتشجع الناس العاديين والمقيمين هناك لأن يؤسسوا ناديا شعبيا لهم يلعب مع كبار نوادي القاهرة وغيرها.. أو أن تحرص وزارة البترول بأموالها الكثيرة والفائضة علي أن تنفق علي مجالات ودراسات رياضية تحتاجها مصر ولا تجد تمويلا كافيا لها..
ولا أقول ذلك نتيجة خلاف شخصي بل علي العكس.. أظن أنه بإمكاني اعتبار المهندس سامح فهمي صديقا عزيزا ولكن هناك أمور وواجبات أهم من الصداقة وأبقي من المعزة.. وبنفس المنطق لا أفهم كيف يمكن للجيش أن يمتلك ناديا أو أكثر تلعب كرة القدم بلاعبين محترفين قابلين للبيع وللشراء.. أو تؤسس الشرطة أندية تخوض منافسات بإسمها في مسابقات مختلف اللعبات.. فما هو الداع لكل ذلك..
هل هي الرغبة في الظهور والوجود رغم عدم الاحتياج لذلك.. أم أنه تصور خاطئ لمفهوم الاهتمام بالرياضة تماما مثل هذه البطولات الوهمية السخيفة المسماة ببطولة الشركات والتي تقام كل عام.. أو بطولة وهمية أخري للجامعات المصرية.. وقد كانت ـ ولا تزال ـ بطولة الشركات.. مثلها مثل بطولة الجامعات.. هي أحد الأخطاء المسكوت عنها في الإعلام الرياضي المصري.. تماما مثل استاد القاهرة ومنشآت أخري كثيرة أقمناها بالكثير جدا من أموالنا القليلة ثم تركناها ضحية للإهمال واللامبالاة وللفساد أيضا..
وأود التوقف هنا عند رأي سمعته من هاني شكري.. عضو المجلس القومي للرياضة.. والذي أوكل إليه المجلس وضع تصور لاستثمار جديد للرياضة في مصر يقوم ـ لأول مرة في مصر ـ علي العلم والحقائق والأرقام وليس الأوهام والجهل والدجل.. وقال هاني إن استاد القاهرة علي سبيل المثال.. هو وديعة للمجتمع المصري كله جمعها من مدخراته القليلة ويبلغ حجمها ألفا وخمسمائة مليون جنيه.. وبحسبة بسيطة.. فلابد أن يقبض هذا المجتمع المصري من هذه الوديعة قرابة مائة وخمسين مليون جنيها كأرباح وفوائد كل عام.. وهو أمر ممكن لو تغيرت مفاهيم ونظم الإدارة في هيئة الاستاد.. ولكن هناك من يودون الإبقاء علي هذا الوضع الخاطئ.. أو هذه الجريمة..
حتي تختنق ميزانية الدولة يوما فتقرر الاستغناء عن استاد القاهرة وتعرضه للبيع.. وسيكون هذا خطأ أكبر وأكثر فداحة لأن المصريين حينئذ سيكتشفون أنهم تعرضوا للنصب.. فلا الوديعة جاءتهم بفوائد وأرباح طيلة سنين مضت ثم يكتشفون أنهم في النهاية خسروا حتي رأس مالهم الذي امتلكوه بعد الكثير من التضحية والتعب..
وأنا سعيد جدا بما يطرحه هاني شكري.. فهو طرح جديد ومحترم.. ومختلف أيضا.. وتأتي أهمية هذا الاختلاف في أن البعض منا لا يزال يتشبث بأفكار قديمة وبالية.. مثل حكاية الهواة والمتطوعين الذين نأتي بهم ليديروا اتحادات وأندية بميزانيات ضخمة جدا..
وهو ما لم يعد موجودا في العالم كله.. ففي أوروبا.. يتم انتخاب رئيس لاتحاد الكرة أو أية لعبة.. أو رئيس لناد.. فيتسلم منصبه بعد أن يترك أعماله الأخري ويتفرغ لمهمته الجديدة التي يتقاضي عنها راتبا يكفيه ويرضيه.. ويصبح مسئولا أمام الناس عن لعبته ويمنحها كل وقته واهتمامه..
أما نحن.. فلا نزال نخلط بين الهواية والاحتراف.. وكأن إدارة كرة القدم في مصر لا ترقي لأن تكون مهنة يتفرغ لها رئيس يدير شئونها ويرعي أمورها وليست علي هامش اهتمامات وأعمال أي رجل يصبح رئيسا لاتحاد مصر لكرة القدم.. أو كأن الأهلي والزمالك سيعجزان عن دفع راتب لأي رئيس يأتي بالانتخاب فيتفرغ.. فإدارة الأهلي أو الزمالك تستحق التفرغ وتستحق أن تصبح مهنة قائمة بذاتها.. وليست هواية أو تطوعا أو مهمة يقوم بها أحدهم فقط في أوقات فراغه من أعماله الأصلية.. فأنا لم أعد مؤمنا أو مقتنعا بمثل هذا التطوع الكاذب.. وأسعي إلي تقنينه وضبط أموره ورقابته أيضا.. وأندهش من مثل هذا التزاحم والاندفاع ـ إلي حد الاقتتال أحيانا ـ علي مناصب ومقاعد مفروض أنها تطوعية لا فائدة أو مكاسب حقيقية من ورائها.. وأظن أن كل هذا ـ وغير هذا ـ أخطاء فادحة دفعت ولا تزال تدفع ثمنها الرياضة في مصر..
وبسببها بقيت الرياضة المصرية سلعة غير قابلة للاستهلاك وبضاعة أتلفها الهوي والانتهازية والمجاملات والمصالح والفساد المستشري في كل مكان
أما الجانب الآخر من الصورة.. والخاص بغياب الرياضة عن عقل وفكر كثير من المسئولين في مصر.. فهو بالضبط الذي يجسده غياب الرياضة عن اجتماعات ديفوس في شرم الشيخ.. فالمهندس رشيد محمد رشيد.. كوزير للتجارة والصناعة ومسئول أول عن ترتيبات استضافة مصر لهذا المؤتمر.. لم يكلف نفسه عناء متابعة التطورات الأخيرة للمنتدي الدولي الذي اعترف أخيرا بالرياضة وأهميتها واعتذر لها علنا عن مثل هذا الغياب الطويل.. وغابت الرياضة أيضا عن وزارة الخارجية المصرية التي لا تملك بعد إدارة للرياضة والديبلوماسية مثلها مثل كل الوزارات المماثلة في العالم من حولنا.. وبالتأكيد لا يزال الدكتور أحمد نظيف رئيس وزراء مصر.. يترفع ويتأفف من أي حديث عن الرياضة خوفا من أن تهتز صورته أمام الناس ويفقد بعض احترامهم وتقديرهم له إذا تم ضبطه متلبسا بالحديث عن هذا الأمر التافه والحقير الذي اسمه الرياضة.. رغم أنني لا أزال مدينا بكثير من الاحترام والامتنان للسيدة إيزابيل تورناريه.. مديرة الإعلام في منتدي ديفوس الاقتصادي.. والتي حين اتصلت بي تدعوني إلي فنجان قهوة واجتماع قصير في شرم الشيخ ـ مع صحفيين آخرين ـ مع أردوجان رئيس الوزراء التركي..
واجتماع ثان مع شوكت عزيز رئيس الوزراء الباكستاني.. طلبت منها ترتيب حوار مستقل مع كل منهما عن الرياضة والسياسة والتنمية في بلاده.. وفي أقل من ساعتين جاء الرد بالقبول والموافقة والاهتمام أيضا.. لم يبد أي من المسئولين الكبيرين.. في تركيا أو باكستان.. أية دهشة أو استغراب من دعوة للحديث وللتحاور عن وفي الرياضة.. بعكس ما يحدث كل يوم في بلادنا التي بقيت تلعب ولكن فاتها أن تتعلم وأن تعرف وتفهم لماذا وكيف وأين ومتي تلعب.