الله جل جلاله الخَلاَّقُ :
الخلاق صيغة مبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الخالق ، فعله خلق يخلق خلقا والفرق بين الخالق والخلاق أن الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى ، أما الخلاق فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا فمن حيث الكم يخلق ما يشاء كما قال : } إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً { [النساء:133] ، وقال : } وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ { [الأنعام:133] وأما من حيث الكيف فكما قال تعالى : } وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون َ{ [النمل:88] ، وقال : } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ { [التغابن:3] ، وقال : } وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون َ{ [النحل:8] ، فالخلاق هو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بقدرته المطلقة ، فيعيد ما خلق ويكرره كما كان ، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان (17) ، وفي هذا رد على الذين قالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن ذلك ينافي معنى اسمه الخلاق ، صحيح أن الله أحسن وأتقن كل شيء خلقه كما قال : } الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ { [السجدة:7] لكن الله قدرته مطلقة فهو الخالق الخلاق كما أنه الرازق الرزاق .
قال شيخ الإسلام فيمن قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة : ( لا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما بين ذلك في غير موضع من القرآن ، وقد يراد به – قول القائل ليس في الإمكان - أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة ، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله ، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله ، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان ، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ) (18) .
ويذكر ابن القيم أن براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول :
أحدها : تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال : } مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ { ، وقال : } وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ{ [الحجر:86] .
والثاني : تقرير كمال قدرته كقوله : } أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ { .
الثالث : كمال حكمته كما في قوله تعالى : } وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ { [الدخان:38] ، وقوله سبحانه : } أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ { [المؤمنون:115] (19) .
قال ابن كثير : ( وقوله إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ) (20) .
والقرطبي يجعل الخلاق دالا أيضا تقدير الله للأخلاق وتقسيمها بين العباد وهذا يسعه اللفظ ويحتمله ، يقول القرطبي : ( إن ربك هو الخلاق أي المقدر للخلق والأخلاق ، العليم بأهل الوفاق والنفاق )
الله جل جلاله المَالِكُ :
اسم الله المالك ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية ، لكنه ورد في السنة النبوية مطلقا ، فمن القرآن ما جاء في قوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ ) [آل عمران:26] .
والملك يطلق في مقابل الملكوت ، فالملك يراد به عالم الشهادة غالبا أو الحياة الدنيا بصفة عامة والملكوت أيضا يراد به في الغالب عالم الغيب أو عالم الآخرة ، والله عز وجل هو مالك الملك والملكوت رب العالمين ، الذي يملك عالم الغيب وعالم الشهادة بما فيهما ، قال تعالى : ( قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [الأعراف:158] ، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت والله عز وجل كما أفرد نفسه بملكيته لعالم الملك أفرد نفسه بملكيته لعالم الغيب أو عالم الملكوت ، فقال تعالى : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) [الفاتحة:2/4] (1) .
وإذا كان الحق سبحانه مالكا لعالم الغيب والشهادة وما فيهما كما بينت الأدلة السابقة فهو المالك إذا على سبيل الإطلاق أزلا وأبدا ، وعلى الرغم من ذلك فإن أدلة الاسم في القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق الصريح ، والشرط الذي نلتزمه في حصر الأسماء الحسنى أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة ، وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك ، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما ، لكن الذي يجعله اسما ووصفا هو ما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الإمام مسلم من رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّىٰ مَلِكَ الأَمْلاَكِ ، لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ عَزَّ وَجَل ) (2) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه مالكا على سبيل الإطلاق الصريح مرادا به العلمية ودالا على الوصفية .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
سمى الله نفسه الرزاق مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات:58] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (3) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (4) .
الله جل جلاله الوَكيلُ :
ورد اسم الله الوكيل في قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم مطلقا معرفا بالألف واللام ، لكن ورد في مواضع أخرى مقرونا بمعاني العلو ، والعلو كما تقدم يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ورد في قوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) [الأنعام:102] ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) (5) .
الله جل جلاله الرَّقيبُ :
ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ( وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) [الأحزاب:52] ، كما ورد مقيدا في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام : ( فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [المائدة:117] ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً ) [النساء:1] ، وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ .. إلى أن قال : فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَال : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ )
الله جل جلاله المَالِكُ :
المالك في اللغة اسم فاعل فعله ملك يملك فهو مالك ، والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته لا يمتنع عليه منها شيء ، لأن المالك للشيء في كلام العرب هو المتصرف فيه والقادر عليه ، فإن قال قائل : فقد يغصب الإنسان على الشيء فلا يزول ملكه عنه ، قيل له : لا يزول ملكه عنه حكما وديانة ، فأما في الظاهر والاستعمال فالغاصب له ما هو في يده يصرفه كيف شاء ؛ من استعمال أو هبة أو إهلاك أو إصلاح ، وإن كان في ذلك مخطئا آثما آتيا ما هو محظور عليه بإحالته بينه وبين مالكه ، فإن رجع ذلك الشيء على صاحبه قيل : رجع إلى ملكه أي إلى حاله التي كان فيها حقيقة ، والله عز وجل قادر على الأشياء التي خلقها ويخلقها لا يمتنع عليه منها شيء ، وقد قرأ ابن كثير ونافع وأَبو عمرو وابن عامر وحمزة مَلِك يوم الدين بغير أَلف ، وقرأَ عاصم والكسائي ويعقوب مالك بأَلف ، وقد رويت القراءتان عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، والله عز وجل مالك الملك ، ملكه عن أصالة واستحقاك ، لأن علة استحقاق الملك أمران :
الأول : صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده واختراعه ، وقد علم عقلا أن المخترع له براءة الاختراع والمؤلف له حق الطبع والنشر ، وعند البخاري أن عُمَر بن الخطاب رضى الله عنه قال : ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ، وَيُرْوَى ذلك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) (2)، وإذا كان ملوك الدنيا لا يمكن لأحدهم أن يؤسس ملكه بجهده أو يصنعه بمفرده فلا بد له من ظهير معين ، سواء من أهله وقرابته أو حزبه وجماعته أو عشيرته وقبيلته ، إذا علم ذلك فإن الله عز وجل هو المتفرد بالملكية حقيقة فلا أحد ساعده في إنشاء الخلق أو عاونه على استقرار الملك أو يمسك السماء معه أن تقع على الأرض قال تعالى : } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [الأعراف:54] ، وقال : } مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدا { [الكهف :51] ، وعند البخاري من حديث عَمرانَ رضى الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه و سلم قال : ( كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء ) (3) .
أما العلة الثانية لاستحقاق الملك فهي دوام الحياة ، لأنه يوجب انتقال الملكية وثبوت التملك ، ومعلوم أن كل من على الأرض ميت زائل فان ، كما قال سبحانه وتعالى : } كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام { [الرحمن:27] ، وقال أيضا : } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون { [العنكبوت :57] ، ولما كانت الحياة وصف ذات لله والإحياء وصف فعله ، فإن الملك بالضرورة سيئول إلى خالقه ومالكه كما قال : } لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار { [غافر :16] ، وقال تعالى : } وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير { [آل عمران :180] .
فالملك لله في المبتدأ عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ، والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبق من الملوك سواه ، وهو الملك من فوق عرشه لا خالق ولا مدبر للكون إلا الله ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه ، وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد أيضا بأنه المالك المستحق للملك ، قال ابن القيم : ( الفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله ، والملك هو المتصرف بفعله وأمره ، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره ) (4) ، ولعله يقصد أن مالك الشيء لا يلزم أن يكون ملكا لوجود من يرأسه ويمنع تصرفه في ملكه ، أما الملك الذي له الملكية والملك فله مطلق التدبير والأمر .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
الرزاق في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الرازق ، فعله رزق يرزق رزقا ، والمصدر الرزق وهو ما ينتفع به والجمع أرزاق (5) .
وحقيقة الرزق هو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري فينال ما قسم له في التقدير الأزلي ، والرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ المقدر في عطاء الرزق المقسوم والذي يخرجه في السماوات والأرض ، فإخراجه في السماوات يعني أنه مقضي مكتوب ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سينفذ لا محالة ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سليمان عليه السلام : } أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ { [النمل:26] ، فالرزق مكتوب في السماء ، وهو وعد الله فيما تم به القضاء قبل أن يكون واقعا مقدورا في الأرض ، قال تعالى وجود الرزق قضاء في السماء : } وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ { [ الذريات:22] ، وقال عن تنفيذ ما قسمه لكل مخلوق فيما سبق به القضاء : } وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت:60] ، وقال : } وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا { [هود:6] ، فالله يتولاها لحظة بلحظة تنفيذا للمقسوم في سابق التقدير .
فالرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ العطاء الذي قدره لأرزاق الخلائق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق ، وهو المفيض بالأرزاق رزقا بعد رزق ، مبالغة في الإرزاق وما يتعلق بقسمة الأرزاق وترتيب أسبابها في المخلوقات ، ألا ترى أن الذئب قد جعل الله رزقه في أن يصيد الثعلب فيأكله ، والثعلب رزقه أن يصيد القنفذ فيأكله ، والقنفذ رزقه أن يصيد الأفعى فيأكلها ، والأفعى رزقها أن تصيد الطير فتأكله ، والطير رزقه في أن يصيد الجراد فيأكله (6) ، وتتوالى السلسلة في أرزاق متسلسلة رتبها الرزاق في خلقه ، فتبارك الذي أتقن كل شيء في ملكه وجعل رزق الخلائق عليه ، ضمن رزقهم وسيؤديه لهم كما وعد ، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه ويوحدوه ، قال تعالى : } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { [الذاريات:57] (7) .
فالأرزاق مقسومة ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أنه قَالَ ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : ( قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (8) .
وقال تعالى : } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا { [الطلاق:3] ، وفي هذا بيان أن الذي قدره من الرزق على العموم والإجمال سيتولاه في الخلق على مدار الوقت والتفصيل فهو سبحانه الرزاق الخلاق القدير المقتدر ، قال ابن القيم :
وكذلك الرزاق من أسمائه والرزق من أفعاله نوعان
رزق على يد عبده ورسوله نوعان أيضا ذان معروفان
رزق القلوب العلم والإيمان والرزق المعد لهذه الأبدان
هذا هو الرزق الحلال وربنا رزاقه والفضل للمنان
والثاني سوق القوت للأعضاء في تلك المجاري سوقه بوزان
هذا يكون من الحلال كما يكون من الحرام كلاهما رزقان
والله رازقه بهذا الاعتبار وليس بالإطلاق دون بيان (9).
الخلاق صيغة مبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الخالق ، فعله خلق يخلق خلقا والفرق بين الخالق والخلاق أن الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى ، أما الخلاق فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا فمن حيث الكم يخلق ما يشاء كما قال : } إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً { [النساء:133] ، وقال : } وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ { [الأنعام:133] وأما من حيث الكيف فكما قال تعالى : } وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون َ{ [النمل:88] ، وقال : } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ { [التغابن:3] ، وقال : } وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون َ{ [النحل:8] ، فالخلاق هو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بقدرته المطلقة ، فيعيد ما خلق ويكرره كما كان ، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان (17) ، وفي هذا رد على الذين قالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن ذلك ينافي معنى اسمه الخلاق ، صحيح أن الله أحسن وأتقن كل شيء خلقه كما قال : } الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ { [السجدة:7] لكن الله قدرته مطلقة فهو الخالق الخلاق كما أنه الرازق الرزاق .
قال شيخ الإسلام فيمن قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة : ( لا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما بين ذلك في غير موضع من القرآن ، وقد يراد به – قول القائل ليس في الإمكان - أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة ، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله ، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله ، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان ، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ) (18) .
ويذكر ابن القيم أن براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول :
أحدها : تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال : } مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ { ، وقال : } وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ{ [الحجر:86] .
والثاني : تقرير كمال قدرته كقوله : } أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ { .
الثالث : كمال حكمته كما في قوله تعالى : } وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ { [الدخان:38] ، وقوله سبحانه : } أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ { [المؤمنون:115] (19) .
قال ابن كثير : ( وقوله إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ) (20) .
والقرطبي يجعل الخلاق دالا أيضا تقدير الله للأخلاق وتقسيمها بين العباد وهذا يسعه اللفظ ويحتمله ، يقول القرطبي : ( إن ربك هو الخلاق أي المقدر للخلق والأخلاق ، العليم بأهل الوفاق والنفاق )
الله جل جلاله المَالِكُ :
اسم الله المالك ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية ، لكنه ورد في السنة النبوية مطلقا ، فمن القرآن ما جاء في قوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ ) [آل عمران:26] .
والملك يطلق في مقابل الملكوت ، فالملك يراد به عالم الشهادة غالبا أو الحياة الدنيا بصفة عامة والملكوت أيضا يراد به في الغالب عالم الغيب أو عالم الآخرة ، والله عز وجل هو مالك الملك والملكوت رب العالمين ، الذي يملك عالم الغيب وعالم الشهادة بما فيهما ، قال تعالى : ( قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) [الأعراف:158] ، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت والله عز وجل كما أفرد نفسه بملكيته لعالم الملك أفرد نفسه بملكيته لعالم الغيب أو عالم الملكوت ، فقال تعالى : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) [الفاتحة:2/4] (1) .
وإذا كان الحق سبحانه مالكا لعالم الغيب والشهادة وما فيهما كما بينت الأدلة السابقة فهو المالك إذا على سبيل الإطلاق أزلا وأبدا ، وعلى الرغم من ذلك فإن أدلة الاسم في القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق الصريح ، والشرط الذي نلتزمه في حصر الأسماء الحسنى أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة ، وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك ، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما ، لكن الذي يجعله اسما ووصفا هو ما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عند الإمام مسلم من رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّىٰ مَلِكَ الأَمْلاَكِ ، لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ عَزَّ وَجَل ) (2) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه مالكا على سبيل الإطلاق الصريح مرادا به العلمية ودالا على الوصفية .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
سمى الله نفسه الرزاق مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات:58] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (3) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (4) .
الله جل جلاله الوَكيلُ :
ورد اسم الله الوكيل في قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم مطلقا معرفا بالألف واللام ، لكن ورد في مواضع أخرى مقرونا بمعاني العلو ، والعلو كما تقدم يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ورد في قوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) [الأنعام:102] ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173] ، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) (5) .
الله جل جلاله الرَّقيبُ :
ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ( وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ) [الأحزاب:52] ، كما ورد مقيدا في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام : ( فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) [المائدة:117] ، وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً ) [النساء:1] ، وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ .. إلى أن قال : فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَال : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ )
الله جل جلاله المَالِكُ :
المالك في اللغة اسم فاعل فعله ملك يملك فهو مالك ، والله عز وجل مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته لا يمتنع عليه منها شيء ، لأن المالك للشيء في كلام العرب هو المتصرف فيه والقادر عليه ، فإن قال قائل : فقد يغصب الإنسان على الشيء فلا يزول ملكه عنه ، قيل له : لا يزول ملكه عنه حكما وديانة ، فأما في الظاهر والاستعمال فالغاصب له ما هو في يده يصرفه كيف شاء ؛ من استعمال أو هبة أو إهلاك أو إصلاح ، وإن كان في ذلك مخطئا آثما آتيا ما هو محظور عليه بإحالته بينه وبين مالكه ، فإن رجع ذلك الشيء على صاحبه قيل : رجع إلى ملكه أي إلى حاله التي كان فيها حقيقة ، والله عز وجل قادر على الأشياء التي خلقها ويخلقها لا يمتنع عليه منها شيء ، وقد قرأ ابن كثير ونافع وأَبو عمرو وابن عامر وحمزة مَلِك يوم الدين بغير أَلف ، وقرأَ عاصم والكسائي ويعقوب مالك بأَلف ، وقد رويت القراءتان عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، والله عز وجل مالك الملك ، ملكه عن أصالة واستحقاك ، لأن علة استحقاق الملك أمران :
الأول : صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده واختراعه ، وقد علم عقلا أن المخترع له براءة الاختراع والمؤلف له حق الطبع والنشر ، وعند البخاري أن عُمَر بن الخطاب رضى الله عنه قال : ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ، وَيُرْوَى ذلك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) (2)، وإذا كان ملوك الدنيا لا يمكن لأحدهم أن يؤسس ملكه بجهده أو يصنعه بمفرده فلا بد له من ظهير معين ، سواء من أهله وقرابته أو حزبه وجماعته أو عشيرته وقبيلته ، إذا علم ذلك فإن الله عز وجل هو المتفرد بالملكية حقيقة فلا أحد ساعده في إنشاء الخلق أو عاونه على استقرار الملك أو يمسك السماء معه أن تقع على الأرض قال تعالى : } أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ { [الأعراف:54] ، وقال : } مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُدا { [الكهف :51] ، وعند البخاري من حديث عَمرانَ رضى الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه و سلم قال : ( كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ وكتب في الذكر كل شيء ) (3) .
أما العلة الثانية لاستحقاق الملك فهي دوام الحياة ، لأنه يوجب انتقال الملكية وثبوت التملك ، ومعلوم أن كل من على الأرض ميت زائل فان ، كما قال سبحانه وتعالى : } كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام { [الرحمن:27] ، وقال أيضا : } كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون { [العنكبوت :57] ، ولما كانت الحياة وصف ذات لله والإحياء وصف فعله ، فإن الملك بالضرورة سيئول إلى خالقه ومالكه كما قال : } لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّار { [غافر :16] ، وقال تعالى : } وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير { [آل عمران :180] .
فالملك لله في المبتدأ عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ، والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبق من الملوك سواه ، وهو الملك من فوق عرشه لا خالق ولا مدبر للكون إلا الله ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه ، وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد أيضا بأنه المالك المستحق للملك ، قال ابن القيم : ( الفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله ، والملك هو المتصرف بفعله وأمره ، والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره ) (4) ، ولعله يقصد أن مالك الشيء لا يلزم أن يكون ملكا لوجود من يرأسه ويمنع تصرفه في ملكه ، أما الملك الذي له الملكية والملك فله مطلق التدبير والأمر .
الله جل جلاله الرَّزَّاقُ :
الرزاق في اللغة من صيغ المبالغة على وزن فعال من اسم الفاعل الرازق ، فعله رزق يرزق رزقا ، والمصدر الرزق وهو ما ينتفع به والجمع أرزاق (5) .
وحقيقة الرزق هو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري فينال ما قسم له في التقدير الأزلي ، والرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ المقدر في عطاء الرزق المقسوم والذي يخرجه في السماوات والأرض ، فإخراجه في السماوات يعني أنه مقضي مكتوب ، وإخراجه في الأرض يعني أنه سينفذ لا محالة ولذلك قال الله تعالى في شأن الهدهد الموحد ومخاطبته سليمان عليه السلام : } أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ { [النمل:26] ، فالرزق مكتوب في السماء ، وهو وعد الله فيما تم به القضاء قبل أن يكون واقعا مقدورا في الأرض ، قال تعالى وجود الرزق قضاء في السماء : } وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ { [ الذريات:22] ، وقال عن تنفيذ ما قسمه لكل مخلوق فيما سبق به القضاء : } وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت:60] ، وقال : } وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا { [هود:6] ، فالله يتولاها لحظة بلحظة تنفيذا للمقسوم في سابق التقدير .
فالرزاق سبحانه هو الذي يتولى تنفيذ العطاء الذي قدره لأرزاق الخلائق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق ، وهو المفيض بالأرزاق رزقا بعد رزق ، مبالغة في الإرزاق وما يتعلق بقسمة الأرزاق وترتيب أسبابها في المخلوقات ، ألا ترى أن الذئب قد جعل الله رزقه في أن يصيد الثعلب فيأكله ، والثعلب رزقه أن يصيد القنفذ فيأكله ، والقنفذ رزقه أن يصيد الأفعى فيأكلها ، والأفعى رزقها أن تصيد الطير فتأكله ، والطير رزقه في أن يصيد الجراد فيأكله (6) ، وتتوالى السلسلة في أرزاق متسلسلة رتبها الرزاق في خلقه ، فتبارك الذي أتقن كل شيء في ملكه وجعل رزق الخلائق عليه ، ضمن رزقهم وسيؤديه لهم كما وعد ، وكل ذلك ليركنوا إليه ويعبدوه ويوحدوه ، قال تعالى : } وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ { [الذاريات:57] (7) .
فالأرزاق مقسومة ولَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أنه قَالَ ( قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و سلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم : ( قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ ، وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ ، لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ ، أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) (8) .
وقال تعالى : } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا { [الطلاق:3] ، وفي هذا بيان أن الذي قدره من الرزق على العموم والإجمال سيتولاه في الخلق على مدار الوقت والتفصيل فهو سبحانه الرزاق الخلاق القدير المقتدر ، قال ابن القيم :
وكذلك الرزاق من أسمائه والرزق من أفعاله نوعان
رزق على يد عبده ورسوله نوعان أيضا ذان معروفان
رزق القلوب العلم والإيمان والرزق المعد لهذه الأبدان
هذا هو الرزق الحلال وربنا رزاقه والفضل للمنان
والثاني سوق القوت للأعضاء في تلك المجاري سوقه بوزان
هذا يكون من الحلال كما يكون من الحرام كلاهما رزقان
والله رازقه بهذا الاعتبار وليس بالإطلاق دون بيان (9).