ما الجديد
ستار دي في بي | StarDVB

أهلاً وسهلاً بك من جديد في ستار دي في بي StarDVB. تم في الاونة الاخيرة تطوير وتخصيص الموقع ليشمل IPTV و SMART TV بشكل أوسع من السابق. إذا كنت مسجل سابقا يمكنك الدخول باسم المستخدم السابق نفسه، وإن كنت غير مسجل مسبقاً، يمكنك التسجيل الان. نرحب بمشاركاتك واقتراحاتك في أي وقت، نتمنى لك وقتاً ممتعاً معنا.

قسم التاريخ الإسلامي هذا الموضع متجدد

elsaid320

ستار جديد
فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم :

السلام و الصلاة على سيدنا محمد عليه افضل الصلاة و السلام :

اما بعد :
Edirne_Kusatma_Zonaro.jpg


العناصر :
أولا الإعداد للفتح
ثانيا : الهجوم
ثالثاً: مفاوضات بين محمد الفاتح وقسطنطين
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح
خامساً: عبقرية حربية فذة)نقطة التحول)
سادساً: الحرب النفسية العثمانية
سابعاً: مفاجأة عسكرية عثمانية:
أولاً: الإعداد للفتح:

لقد اعتنى السلطان محمد الفاتح بإقامة قلعة (روملي حصار) في الجانب الأوروبي على مضيق البسفور في أضيق نقطة منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي، وقد حاول الإمبراطور البيزنطي ثني السلطان الفاتح عن بناء القلعة مقابل التزامات مالية تعهدبه إلا أن الفاتح أصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع ، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة ، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأصبحت القلعتان متقابلتين ولا يفصل بينهما سوى 660م تتحكمان في عبور السفن من شرقي البسفور إلى غربيه وتستطيع نيران مدافعهما منع أي سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقهامثل مملكة (طرابزون ) وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة.

أ- اهتمام السلطان بجمع الأسلحة اللازمة:

اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وقد تمكن هذاالمهندس من تصميم وتنفيذ العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها المدفع السلطاني المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.

ب- الاهتمام بالأسطول:

ويضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة ،وقد ذكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثرمن أربعمائة سفينة.

ج- عقد معاهدات:

كما عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة معإمارة (غلطة) المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق (القرن الذهبي) ،كما عقد معاهدات مع (المجد) و (البندقية) وهما من الأمارات الأوروبية المجاورة ،ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية ، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن القسطنطينية مشاركة لبني عقيدتهم من النصارى متناسين عهودهم ومواثيقهم مع المسلمين.
في هذه الأثناء التي كان السلطان يعد العدة فيها للفتح ،استمات الإمبراطور البيزنطي في محاولاته لثنيه عن هدفه ، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه ، بمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثرواعلى قراره ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنه هذه الأمور عن هدفه ،ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوربية وعلى رأسها البابا زعيم المذهب الكاثوليكي ، في الوقت الذي كانت فيه كنائس الدولة البيزنطية وعلى رأسها القسطنطينية تابعة للكنيسة الأرثوذكسية وكان بينهما عداء شديد ، وقد اضطرالإمبراطور لمجاملة البابا بأن يتقرب إليه ويظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية لتصبح خاضعة له ، في الوقت الذي لم يكن الأرثوذكس يرغبون في ذلك ، وقد قام البابا بناءً على ذلك بإرسال مندوب منه إلى القسطنطينية ،خطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين ، مما أغضب جمهورالأرثوذكس في المدينة ، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك ، حتى قال بعض زعماء الأرثوذكس : ( إنني أفضل أن أشاهد في ديارالبيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية).

ثانياً: الهجوم:

كانت القسطنطينية محاطة بالمياه البحرية في ثلاث جبهات، مضيق البسفور، وبحر مرمرة، والقرن الذهبي الذي كان محمياً بسلسلة ضخمة جداً تتحكم فيدخول السفن إليه، وبالإضافة إلى ذلك فإن خطين من الأسوار كانت تحيط بها من الناحية البرية من شاطئ بحر مرمرة إلى القرن الذهبي، يتخللها نهر ليكوس، وكان بين السورينفضاء يبلغ عرضه 60 قدماً ويرتفع السور الداخلي منها 40 قدماً وعليه أبراج يصل ارتفاعها إلى 60 قدماً، وأما السور الخارجي فيبلغ ارتفاعه قرابة خمس وعشرين قدماً وعليه أبراج موزعة مليئة بالجند، وبالتالي فإن المدينة من الناحية العسكرية تعد من أفضل مدن العالم تحصيناً، لما عليها من الأسوار والقلاع والحصون إضافة إلى التحصينات الطبيعية، وبالتالي فإنه يصعب اختراقها، ولذلك فقد استعصت على عشرات المحاولات العسكرية لاقتحامها ومنها إحدى عشرة محاولة إسلامية سابقة.

كان السلطان الفاتح يكمل استعدادات القسطنطينية ويعرف أخبارها ويجهز الخرائط اللازمة لحصارها ، كما كان يقوم بنفسه بزيارات استطلاعية يشاهد فيها استحكامات القسطنطينية وأسوارها ، وقد عمل السلطان على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية ، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية ، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم من الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 26ربيع الأول 857هـ الموافق 6 أبريل 1453م ، فجمع الجند وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي ، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة ،وذكرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء ، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك ، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره ، وما في فتحها من عز الإسلام والمسلمين ، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء.

وكان العلماء مبثوثين في صفوف الجيش مقاتلين ومجاهدين مما أثر في رفع معنوياتهم حتى كان كل جندي ينتظر القتال بفارغ الصبر ليؤديما عليه من واجب.

وفي اليوم التالي قام السلطان بتوزيع جيشه البري أمام الأسوار الخارجية للمدينة، مشكلاً ثلاثة أقسام رئيسية تمكنت من إحكام الحصار البري حول مختلف الجهات، كما أقام الفاتح جيوشاً احتياطية خلف الجيوش الرئيسية، وعمل على نصب المدافع أمام الأسوار، ومن أهمها المدفع السلطاني العملاق الذي أقيم أمام باب طب قابي، كما وضع فرقاً للمراقبة في مختلف المواقع المرتفعة والقريبة من المدينة،وفي نفس الوقت انتشرت السفن العثمانية في المياه المحيطة بالمدينة، إلا أنها لمتستطع الوصول إلى القرن الذهبي بسبب وجود السلسلة الضخمة التي منعت أي سفينة من دخوله بل وتدمر كل سفينة تحاول الدنو والاقتراب، واستطاع الأسطول العثماني أنيستولي على جزر الأمراء في بحر مرمرة.

وحاول البيزنطيون أن يبذلوا قصارىجهدهم للدفاع عن القسطنطينية ووزعوا الجنود على الأسوار، وأحكموا التحصينات، وأحكم الجيش العثماني قبضته على المدينة، ولم يخلُ الأمر من وقوع قتال بين العثمانيين المهاجمين والبيزنطيين المدافعيين منذ الأيام الأولى للحصار، وفتحت أبواب الشهادة وفاز عدد كبير من العثمانيين بها خصوصاً من الأفراد الموكلين بالاقتراب من الأبواب.

وكانت المدفعية العثمانية تطلق مدافعها من مواقع مختلفة نحوالمدينة، وكان لقذائفها ولصوتها الرهيب دور كبير في إيقاع الرعب في قلوب البيزنطيين، وقد تمكنت من تحطيم بعض الأسوار حول المدينة، ولكن المدافعين كانوا سرعان ما يعيدون بناء الأسوار وترميمها.

ولم تنقطع المساعدات المسيحية من أووربا، ووصلت إمدادات من (جنوة ) مكونة من خمس سفن وكان يقودها القائد الجنوي ( جستنيان) يرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوربية متعددة، واستطاعت سفنهم أن تصل إلى العاصمة البيزنطية العتيقة بعد مواجهة بحرية مع السفن العثمانية المحاصرةللمدينة، وكان لوصول هذه القوات أثر كبير في رفع معنويات البيزنطيين، وعين قائدها ( جستنيان ) قائداً عاماً للقوات المدافعة عن المدينة.

وقد حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلسلة الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه ، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروبية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية وارتفعت الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة.

ولم يكل القس ورجال الدين النصارى، فكانوا يطوفون بشوارع المدينة،وأماكن التحصين ويحرضون المسيحيين على الثبات والصبر، ويشجعون الناس على الذهاب إلى الكنائس ودعاء المسيح والسيدة والعذراء أن يخلصوا المدينة، وأخذ الإمبراطور قسطنطين يتردد بنفسه على كنيسة أيا صوفيا لهذا الهدف.

ثالثاً: مفاوضات بين محمدالفاتح وقسطنطين:

استبسل العثمانيون المهاجمون على المدينة وعلى رأسهم محمد الفاتح، وصمد البيزنطيون بقيادة قسطنطين صموداً بطولياً في الدفاع، وحاول الإمبراطور البيزنطي أن يخلص مدينته وشعبه بكل ما يستطيع من حيلة، فقدم عروضاً مختلفة للسلطان ليغريه بالانسحاب مقابل الأموال أو الطاعة، أو غير ذلك من العروض التي قدمها.

ولكن الفاتح رحمه الله يرد بالمقابل طالباً تسليم المدنية تسليماً، وأنه في هذه الحالة لن يتعرض أحد من أهلها ولا كنائسها للأذى، وكان مضمونالرسالة: ( فليسلم لي إمبراطوركم مدينة القسطنطينية وأقسم بأن جيشي لن يتعرض لأحدفي نفسه وماله وعرضه، ومن شاء بقي في المدينة وعاش فيها في أمن وسلام، ومن شاء رحل عنها حيث أراد في أمن وسلام أيضاً(

كان الحصار لا يزال ناقصاً ببقاء مضيق القرن الذهبي في أيدي البحرية البيزنطية، ومع ذلك فإن الهجوم العثماني كان مستمراًدون هوادة حيث أظهر جنود الانكشارية شجاعة فائقة، وبسالة نادرة، فكانوا يقدمون على الموت دون خوف في أعقاب كل قصف مدفعي، وفي يوم 18 أبريل تمكنت المدافع العثمانية من فتح ثغرة في الأسوار البيزنطية عند (وادي ليكوس) في الجزء الغربي من الأسوار،فاندفع إليها الجنود العثمانيون بكل بسالة محاولين اقتحام المدينة من الثغرة، كماحالوا اقتحام الأسوار الأخرى بالسلالم التي ألقوها عليها، ولكن المدافعين عن المدينة بقيادة (جستنيان) استماتوا في الدفاع عن الثغرة والأسوار، واشتد القتال بينالطرفين، وكانت الثغرة ضيقة وكثرت السهام والنبال والمقذوفات على الجنود المسلمين ،ومع ضيق المكان وشدة مقاومة الأعداء وحلول الظلام أصدر الفاتح أوامره للمهاجمين بالانسحاب بعد أن أثاروا الرعب في قلوب أعدائهم متحينين فرصة أخرى للهجوم.

وفي اليوم نفسه حاولت بعض السفن العثمانية اقتحام القرن الذهبي بتحطيم السلسلة الحاجزة عنه، ولكن السفن البيزنطية والأوروبية المشتركة، إضافة إلى الفرق الدفاعية المتمركزة خلف السلسلة الضخمة من المدافعين عن مدخل الخليج،استطاعوا جميعاً من صد السفن الإسلامية وتدمير بعضها، فاضطرت بقية السفن إلى العودةبعد أن فشلت في تحقيق مهمتها.
 

elsaid320

ستار جديد
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:

بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة أخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول إلى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلاميةجهوداً كبيرة لمنعها، أشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، إذا لمتوفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفهاولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك، وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الأسطول بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الأسطول ( بالطه أوغلي ) وعنفه واتهمه بالجبن،وتأثر( بالطة أو غلي ) لهذا قال: (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أنأموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت أنا ورجالي بكل ما كان في وسعنا من حيلةوقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة). أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قدأعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا.

خامساً: عبقرية حربية فذة:

لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في (بشكطاش) إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطرق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن ( حي غلطة ) خوفاً على سفنه من الجنوبيين ، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال ، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاًغير ممهدة.

جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.

بدأ تنفيذالخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة ، إلاأنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن.

وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ،حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي ، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو ،بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.

وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة ، واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية ، وهتافاتهم المتصاعدة ، وأناشيدهم الإيمانية العالية ، في القرن الذهبي ،وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي ، ولم يعد هناك حاجزمائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين ، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال : (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذاالشيء الخارق ، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاًمن الأمواج ، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر).ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة.

وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.

وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميتة كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.

واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع ،وحاولوا تسلق أسوارها ، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدم من أسوار مدينتهم ورد ا لمحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصارعليهم مما زاد في مشقتهم وتبعهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس.

كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفوروالمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً.

سادساً: الحرب النفسية العثمانية:

وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القويةعلى الهضاب الواقعة خلف (غلطة)، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحوالميناء وأصابت إحدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال ، فخافت السفن الأخرىواضطرت للفرار ، واتخذت من أسوار (غلطة) ملجأ لها ، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الأخرى، وكان السلطان محمدالفاتح يوالي الهجمات وإطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل إنهاك قوىالمحاصرين ، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال ، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة ، وأعصابهم متوترة مجهدة تثور لأي سبب.

واضطر الإمبراطور ( قسطنطين )إلى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه أحد القادةمباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هو في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي( ليكونس )، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم إلى مكان القتال ، واستمر القتال إلى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون.

لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج،فأسرع الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين دون أن يعلموا، حتى إذاوصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب خاصة وسرية تؤدي إلى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذا فاجأهم الروم، فصبواعليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة، فاختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيت أتوا.

لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلواعلى ذلك حتى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهو يمشون إن هي أصوات خفية لحفريقوم به العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة ، ويشيرون هناوهناك في فزع ويقولون : (هذا تركي ، … هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها أنها تطاردهم.

سابعاً: مفاجأة عسكرية عثمانية:

لجأ العثمانيون إلىأسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار،وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعةواقتربوا بها من الأسوار عن باب( رومانوس)، فاتجه الإمبراطور بنفسه ومعه قوادهليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد، واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين،وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب.

ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:

أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام، فكتب إلى الإمبراطور رسالة دعاه فيه إلى تسليم المدينة دون إراقة دماء ، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكانالمدينة إلى حيث يشاؤون بأمان ، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها ، ولما وصلت الرسالة إلىالإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم إلى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت ، فمال الإمبراطور إلى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة ، فرد الإمبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها : (إنه يشكرالله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنهأقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه أو يدفن تحت أسوارها) ،فلما وصلت الرسالة إلى الفاتح قال : (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أويكون لي فيها قبر).

وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً إلىتكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدافع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى رأسهم المهندس المجري( أوربان )الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة إلىضربها للأسوار والقلاع.

تاسعاً: محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:

في يوم الأحد 18 جمادى الأول 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه ، لعل الله أن ييسر لهم الفتح ، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين ، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخرأحوالها ، وما وصلت إليه وأوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة ، وحدد مواقعمعينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحيةفي قتال الأعداء.

وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون ناراً كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم وبالتهليل والتكبير، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانية، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدماً،مما أوقع الرعب في قلوب الروم، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه علىالمواقع العسكرية المختلفة متفقداً موجهاً ومذكراً بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد.

وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد بههذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن الظفرالعظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبو االكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لايقاتلون.

وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحدالغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر نحومنتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ( فرانتزتس) ثم قاما برحلة تفقدية لقواتالنصارى المدافعة ولا حظوا حركة الجيش العثماني النشطة المتوثبة للهجوم البري والبحري.

عاشراً: فتح من الله ونصر قريب:

عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى ، وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ، ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ،بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطرالأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة .

وبعد أن انهكت الفرقة الأولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للاقتحام ، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستميتة من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة ، وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أنظنوا أن الأمر قد هدأ وكانوا قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال .

كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد ، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدوبدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم ، وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالانسحابلكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعينعنها بوابل من القذائف ، واتبعتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعيةجاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها ، وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند ( طوب قابي ) ورفعوا الأعلام العثمانية مما زاد في حماس بقية الجيش للاقتحام كما فتوا في عضد الأعداء .

وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين( جستنيان ) بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة مما أثر في بقية المدافعين ، وقد تولىالإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فاراً من أرض المعركة ، وقد بذل الإمبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة ، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.

وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسواروالاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الأعلام العثمانية عليها ، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة ، ولما رأىقسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة ، أيقن بعدم جدوىالدفاع وخلع ملابسه حتى لا يعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة.

وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين ، وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم ، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة ، وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر ، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده ، وكان قواده يهنئونه وهو يقول : (الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر).

كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين ، وقد هرب أغلب أهل المدينة إلى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م ، إلاوالسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهو يرددون ما شاء الله ،فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلىالله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه واستقبل القبلة وسجد لله على الأرض شكراً وحمداًوتواضعاً لله تعالى.

حادي عشر : معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين :

توجه محمد الفاتح إلى كنيسة( آيا صوفية ) وقد اجتمع فيها خلق كبير منالناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم ، وعندمااقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً ، وقام أحد الرهبان بفتح الأبوابله فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان ، فأطمأن الناسوكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة ، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجواوأعلنوا إسلامهم ، وصلى فيها الفاتح صلاة العصر ، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة ، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب ، وقد يجوز تحويل الكنسية إلى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوةلها حكمها في الشريعة الإسلامية.

ثم أمر بدفن الإمبراطور بما يليق بمكانته ،وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدينة ، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.

لقد حاول المؤرخ الإنجليزي ( ادوارد شيبرد كريسي ) في كتابة (تاريخ العثمانيين الأتراك ) أن يشوه صوره الفتح العثمانية للقسطنطينية، ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد ، وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة فيعام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية ، وساقهم إلى اسواق الرقيق في مدينة دارنة حيث تم بيعهم هناك.

إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول : إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى و الرفق بهم ، وافتدىعدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان ، ورجال الدين ، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم إلى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم ، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريكا ، وتوجه هذا بعدانتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان ، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم ، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى ،دينية وسياسية واجتماعية ، وخرج البطريريك من لقاء السلطان ، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك ، بل والمسلمين عامة ، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وإنسانية رفيعة ، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم ، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لا بد لاحقهم ، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام.

وهكذا فتحت مدينة الروم ، وكان عمر الفاتح آنذاك الخامسةوالعشرين عاماً ، وبعد حصار دام خمسين يوماً ، وهي المدينة التي حوصرت تسعاً وعشرين مرة ، وكان بها من السكان آنذاك أزيد من 300 ألف نسمة .
 

elsaid320

ستار جديد
رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:

رابعاً: عزل قائد الأسطول العثماني وشجاعة محمد الفاتح:

بعد هذه المعركة بيومين وقعت معركة أخرى بين البحرية العثمانية وبعض السفن الأوروبية التي حاولت الوصول إلى الخليج، حيث بذلت السفن الإسلاميةجهوداً كبيرة لمنعها، أشرف الفاتح بنفسه على المعركة من على الساحل وكان قد أرسل إلى قائد الأسطول وقال له: (إما أن تستولي على هذه السفن وإما أن تغرقها، إذا لمتوفق في ذلك فلا ترجع إلينا حياً) لكن السفن الأوروبية نجحت في الوصول إلى هدفهاولم تتمكن السفن العثمانية من منعها، رغم الجهود العظيمة المبذولة لذلك، وبالتالي غضب السلطان محمد الفاتح غضباً شديداً فعزل قائد الأسطول بعد ما رجع إلى مقر قيادته واستدعاه وعنف محمد الفاتح قائد الأسطول ( بالطه أوغلي ) وعنفه واتهمه بالجبن،وتأثر( بالطة أو غلي ) لهذا قال: (إني استقبل الموت بجنان ثابت، ولكن يؤلمني أنأموت وأنا متهم بمثل هذه التهمة. لقد قاتلت أنا ورجالي بكل ما كان في وسعنا من حيلةوقوة، ورفع طرف عمامته عن عينه المصابة). أدرك محمد الفاتح عند ذلك أن الرجل قدأعذر، فتركه ينصرف واكتفى بعزله من منصبه، وجعل مكانه حمزة باشا.

خامساً: عبقرية حربية فذة:

لاحت للسلطان فكرة بارعة وهي نقل السفن من مرساها في (بشكطاش) إلى القرن الذهبي، وذلك بجرها على الطرق البري الواقع بين الميناءين مبتعداً عن ( حي غلطة ) خوفاً على سفنه من الجنوبيين ، وقد كانت المسافة بين الميناء نحو ثلاثة أميال ، ولم تكن أرضاً مبسوطة سهلة ولكنها كانت وهاداً وتلالاًغير ممهدة.

جمع محمد الفاتح أركان حربه وعرض عليهم فكرته، وحدد لهم مكان معركته القادمة، فتلقى منهم كل تشجيع، وأعربوا عن إعجابهم بها.

بدأ تنفيذالخطة، وأمر السلطان محمد الثاني فمهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وأتى بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة يسهل بها انزلاج السفن وجرها، وكان أصعب جزء من المشروع هو نقل السفن على انحدار التلال المرتفعة ، إلاأنه بصفة عامة كانت السفن العثمانية صغيرة الحجم خفيفة الوزن.

وجرت السفن من البسفور إلى البر حيث سحبت على تلك الأخشاب المدهونة بالزيت مسافة ثلاثة أميال ،حتى وصلت إلى نقطة آمنة فأنزلت في القرن الذهبي ، وتمكن العثمانيون في تلك الليلة من سحب أكثر من سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من العدو ،بطريقة لم يسبق إليها السلطان الفاتح قبل ذلك ، وقد كان يشرف بنفسه على العملية التي جرت في الليل بعيداً عن أنظار العدو ومراقبته.

وقد تم كل ذلك في ليلة واحدة ، واستيقظ أهل المدينة البائسة صباح يوم 22 أبريل على تكبيرات العثمانيين المدوية ، وهتافاتهم المتصاعدة ، وأناشيدهم الإيمانية العالية ، في القرن الذهبي ،وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي ، ولم يعد هناك حاجزمائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين ، ولقد عبر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال : (ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذاالشيء الخارق ، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاًمن الأمواج ، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر).ظهر اليأس في أهل القسطنطينية وكثرت الإشاعات والتنبؤات بينهم، وانتشرت شائعة تقول: ستسقط القسطنطينية عندما ترى سفن تمخر اليابسة.

وكان لوجود السفن الإسلامية في القرن الذهبي دور كبير في إضعاف الروح المعنوية لدى المدافعين عن المدينة الذين اضطروا لسحب قوات كبيرة من المدافعين عن الأسوار الأخرى لكي يتولوا الدفاع عن الأسوار الواقعة على القرن الذهبي إذ أنها كانت أضعف الأسوار، ولكنها في السابق تحميها المياه، مما أوقع الخلل في الدفاع عن الأسوار الأخرى.

وقد حاول الإمبراطور البيزنطي تنظيم أكثر من عملية لتدمير الأسطول العثماني في القرن الذهبي إلا أن محاولته المستميتة كان العثمانيون لها بالمرصاد حيث أفشلوا كل الخطط والمحاولات.

واستمر العثمانيون في دك نقاط دفاع المدينة وأسوارها بالمدافع ،وحاولوا تسلق أسوارها ، وفي الوقت نفسه انشغل المدافعون عن المدينة في بناء وترميم ما يتهدم من أسوار مدينتهم ورد ا لمحاولات المكثفة لتسلق الأسوار مع استمرار الحصارعليهم مما زاد في مشقتهم وتبعهم وإرهاقهم وشغل ليلهم مع نهارهم وأصابهم اليأس.

كما وضع العثمانيون مدافع خاصة على الهضاب المجاورة للبسفور والقرن الذهبي، مهمتها تدمير السفن البيزنطية والمتعاونة معها في القرن الذهبي والبسفوروالمياه المجاورة مما عرقل حركة سفن الأعداء وأصابها بالشلل تماماً.

سادساً: الحرب النفسية العثمانية:

وشرع السلطان محمد الفاتح في نصب المدافع القويةعلى الهضاب الواقعة خلف (غلطة)، وبدأت هذه المدافع في دفع قذائفها الكثيفة نحوالميناء وأصابت إحدى القذائف سفينة تجارية فأغرقتها في الحال ، فخافت السفن الأخرىواضطرت للفرار ، واتخذت من أسوار (غلطة) ملجأ لها ، وظل الهجوم العثماني البري في موجات خاطفة وسريعة هجمة تلوى الأخرى، وكان السلطان محمدالفاتح يوالي الهجمات وإطلاق القذائف في البر والبحر دون انقطاع ليلاً ونهاراً من أجل إنهاك قوىالمحاصرين ، وعدم تمكينهم من أن ينالوا أي قسط من راحة وهدوء بال ، وهكذا أصبحت عزائمهم ضعيفة ونفوسهم مرهقة كليلة ، وأعصابهم متوترة مجهدة تثور لأي سبب.

واضطر الإمبراطور ( قسطنطين )إلى عقد مؤتمر ثاني، اقترح فيه أحد القادةمباغتة العثمانيين بهجوم شديد عنيف لفتح ثغرة توصلهم بالعالم الخارجي وبينما هو في مجلسهم يتدارسون هذا الاقتراح، قطع عليهم أحد الجنود اجتماعهم وأعلمهم بأن العثمانيين شنوا هجوماً شديداً مكثفاً على وادي( ليكونس )، فترك قسطنطين الاجتماع ووثب على فرسه، واستدعى الجند الاحتياطي ودفع بهم إلى مكان القتال ، واستمر القتال إلى آخر الليل حتى انسحب العثمانيون.

لجأ العثمانيون إلى طريقة عجيبة في محاولة دخول المدينة حيث عملوا على حفر أنفاق تحت الأرض من مناطق مختلفة إلى داخل المدينة وسمع سكانها ضربات شديدة تحت الأرض أخذت تقترب من داخل المدينة بالتدريج،فأسرع الإمبراطور بنفسه ومعه قواده ومستشاروه إلى ناحية الصوت وأدركوا أن العثمانيين يقومون بحفر أنفاق تحت الأرض، للوصول إلى داخل المدينة، فقرر المدافعون الإعداد لمواجهتها بحفر أنفاق مماثلة مقابل أنفاق المهاجمين دون أن يعلموا، حتى إذاوصل العثمانيون إلى الأنفاق التي أعدت لهم ظنوا أنهم وصلوا إلى سراديب خاصة وسرية تؤدي إلى داخل المدينة ففرحوا بهذا، ولكن الفرحة لم تطل إذا فاجأهم الروم، فصبواعليهم ألسنة النيران والنفط المحترق والمواد الملتهبة، فاختنق كثير منهم واحترق قسم آخر وعاد الناجون منهم أدراجهم من حيت أتوا.

لكن هذا الفشل لم يفت في عضد العثمانيين، فعاودوا حفر أنفاق أخرى، وفي مواضع مختلفة، من المنطقة الممتدة بين (أكرى فبو) وشاطئ القرن الذهبي وكانت مكاناً ملائماً للقيام بمثل هذا العمل، وظلواعلى ذلك حتى أواخر أيام الحصار، وقد أصاب أهل القسطنطينية من جراء ذلك خوف عظيم وفزع لا يوصف حتى صاروا يتوهمون أن أصوات أقدامهم وهو يمشون إن هي أصوات خفية لحفريقوم به العثمانيون ويملئون المدينة ، فكانوا يتلفتون يمنة ويسرة ، ويشيرون هناوهناك في فزع ويقولون : (هذا تركي ، … هذا تركي) ويجرون هرباً من أشباح يحسبونها أنها تطاردهم.

سابعاً: مفاجأة عسكرية عثمانية:

لجأ العثمانيون إلىأسلوب جديد في محاولة الاقتحام وذلك بأن صنعوا قلعة خشبية ضخمة شامخة متحركة تتكون من ثلاثة أدوار، وبارتفاع أعلى من الأسوار، وقد كسيت بالدروع والجلود المبللة بالماء لتمنع عنها النيران، وأعدت تلك القلعة بالرجال في كل دور من أدوارها، وكان الذين في الدور العلوي من الرماة يقذفون بالنبال كل من يطل برأسه من فوق الأسوار،وقد وقع الرعب في قلوب المدافعين عن المدينة حينما زحف العثمانيون بهذه القلعةواقتربوا بها من الأسوار عن باب( رومانوس)، فاتجه الإمبراطور بنفسه ومعه قوادهليتابع صد تلك القلعة ودفعها عن الأسوار، وقد تمكن العثمانيون من لصقها بالأسوار ودار بين من فيها وبين النصارى عند الأسوار قتل شديد، واستطاع بعض المسلمين ممن في القلعة تسلق الأسوار ونجحوا في ذلك، وقد ظن قسطنطين أن الهزيمة حلت به، إلا أن المدافعين كثفوا من قذف القلعة بالنيران حتى أثرت فيها وتمكنت منها النيران فاحترقت، ووقعت على الأبراج البيزنطية المجاورة لها فقتلت من فيها من المدافعين،وامتلأ الخندق المجاور لها بالحجارة والتراب.

ثامناً: المفاوضات الأخيرة بين محمد الفاتح وقسطنطين:

أيقن محمد الفاتح أن المدينة على وشك السقوط، ومع ذلك حاول أن يكون دخولها بسلام، فكتب إلى الإمبراطور رسالة دعاه فيه إلى تسليم المدينة دون إراقة دماء ، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكانالمدينة إلى حيث يشاؤون بأمان ، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى ويكونوا بالخيار في البقاء في المدينة أو الرحيل عنها ، ولما وصلت الرسالة إلىالإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر ، فمال بعضهم إلى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت ، فمال الإمبراطور إلى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة ، فرد الإمبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها : (إنه يشكرالله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنهأقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه أو يدفن تحت أسوارها) ،فلما وصلت الرسالة إلى الفاتح قال : (حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أويكون لي فيها قبر).

وعمد السلطان بعد اليأس من تسليم المدينة صلحاً إلىتكثيف الهجوم وخصوصاً القصف المدفعي على المدينة، حتى أن المدافع السلطاني الضخم انفجر من كثرة الاستخدام، وقتل المشتغلين له وعلى رأسهم المهندس المجري( أوربان )الذي تولى الإشراف على تصميم المدفع، ومع ذلك فقد وجه السلطان بإجراء عمليات التبريد للمدافع بزيت الزيتون، وقد نجح الفنيون في ذلك، وواصلت المدافع قصفها للمدينة مرة أخرى، بل تمكنت من توجيه القذائف بحيث تسقط وسط المدينة بالإضافة إلىضربها للأسوار والقلاع.

تاسعاً: محمد الفاتح يوجه تعليماته ويتابع جنوده بنفسه:

في يوم الأحد 18 جمادى الأول 27 من مايو وجه السلطان محمد الفاتح الجنود إلى الخشوع وتطهير النفوس والتقرب إلى الله تعالى بالصلاة وعموم الطاعات والتذلل والدعاء بين يديه ، لعل الله أن ييسر لهم الفتح ، وانتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين ، كما قام الفاتح بنفسه ذلك اليوم بتفقد أسوار المدينة ومعرفة آخرأحوالها ، وما وصلت إليه وأوضاع المدافعين عنها في النقاط المختلفة ، وحدد مواقعمعينة يتم فيها تركيز القصف العثماني ، تفقد فيها أحوالهم وحثهم على الجد والتضحيةفي قتال الأعداء.

وفي مساء اليوم نفسه أوقد العثمانيون ناراً كثيفة حول معسكرهم وتعالت صيحاتهم وأصواتهم وبالتهليل والتكبير، حتى خيل للروم أن النار قد اندلعت في معسكر العثمانية، فإذا بهم يكتشفون أن العثمانيين يحتفلون بالنصر مقدماً،مما أوقع الرعب في قلوب الروم، وفي اليوم التالي 28 مايو كانت الاستعدادات العثمانية على أشدها والمدافع ترمي البيزنط بنيرانها ، والسلطان يدور بنفسه علىالمواقع العسكرية المختلفة متفقداً موجهاً ومذكراً بالإخلاص والدعاء والتضحية والجهاد.

وبعد أن عاد الفاتح إلى خيمته ودعا إليه كبار رجال جيشه أصدر إليهم التعليمات الأخيرة، ثم ألقى عليهم الخطبة التالية: "إذا تم لنا فتح القسطنطينية تحقق فينا حديث من أحاديث رسول الله ومعجزة من معجزاته، وسيكون من حظنا ما أشاد بههذا الحديث من التمجيد والتقدير فأبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن الظفرالعظيم الذي سنحرزه سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، ويجب على كل جندي أن يجعل تعاليم شريعتنا الغراء نصب عينيه فلا يصدر عن أحد منهم ما يجافي هذه التعاليم، وليتجنبو االكنائس والمعابد ولا يمسوها بأذى ويدعوا القسس والضعفاء والعجزة الذين لايقاتلون.

وتوجه قسطنطين نحو صورة (يزعمون أنها صورة المسيح) معلقة في أحدالغرف فركع تحتها وهمهم بعض الدعوات ثم نهض ولبس المغفر على رأسه وخرج من القصر نحومنتصف الليل مع زميله ورفيقه وأمينه المؤرخ( فرانتزتس) ثم قاما برحلة تفقدية لقواتالنصارى المدافعة ولا حظوا حركة الجيش العثماني النشطة المتوثبة للهجوم البري والبحري.

عاشراً: فتح من الله ونصر قريب:

عند الساعة الواحدة صباحا من يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى سنة 857هـ الموافق 29 مايو 1435م بدأ الهجوم العام على المدينة بعد أن أصدرت الأوامر للمجاهدين الذين علت أصواتهم بالتكبير وانطلقوا نحو الأسوار ، وخاف البيزنطيون خوفا عظيما ، وشرعوا في دق نواقيس الكنائس والتجأ إليها كثير من النصارى ، وكان الهجوم النهائي متزامنا بريا وبحرياً في وقت واحد حسب خطة دقيقة أعدت بإحكام ، وكان المجاهدون يرغبون في الشهادة ، ولذلك تقدموا بكل شجاعة وتضحية وإقدام نحو الأعداء ونال الكثير من المجاهدين الشهادة ، وكان الهجوم موزعا على كثير من المناطق ، ولكنه مركز بالدرجة الأولى في منطقة وادي ليكوس ،بقيادة السلطان محمد الفاتح نفسه ، وكانت الكتائب الأولى من العثمانيين تمطرالأسوار والنصارى بوابل من القذائف والسهام محاولين شل حركة المدافعين ، ومع استبسال البيزنطيين وشجاعة العثمانيين كان الضحايا من الطرفين يسقطون بأعداد كبيرة .

وبعد أن انهكت الفرقة الأولى الهجومية كان السلطان قد أعد فرقة أخرى فسحب الأولى ووجه الفرقة الثانية ، وكان المدافعون قد أصابهم الإعياء ، وتمكنت الفرقة الجديدة ، من الوصول إلى الأسوار وأقاموا عليها مئات السلالم في محاولة جادة للاقتحام ، ولكن النصارى استطاعوا قلب السلالم واستمرت تلك المحاولات المستميتة من المهاجمين ، والبيزنطيون يبذلون قصارى جهودهم للتصدي لمحاولات التسلق ، وبعد ساعتين من تلك المحاولات أصدر الفاتح أوامره للجنود لأخذ قسط من الراحة ، بعد أن أرهقوا المدافعين في تلك المنطقة ، وفي الوقت نفسه أصدر أمرا إلى قسم ثالث من المهاجمين بالهجوم على الأسوار من نفس المنطقة ، وفوجئ المدافعون بتلك الموجة الجديدة بعد أنظنوا أن الأمر قد هدأ وكانوا قد أرهقوا ، في الوقت الذي كان المهاجمون دماء جديدة معدة ومستريحة وفي رغبة شديدة لأخذ نصيبهم من القتال .

كما كان القتال يجري على قدم وساق في المنطقة البحرية مما شتت قوات المدافعين وأشغلهم في أكثر من جبهة في وقت واحد ، ومع بزوغ نور الصباح أصبح المهاجمون يستطيعون أن يحددوا مواقع العدوبدقة أكثر ، وشرعوا في مضاعفة جهودهم في الهجوم ، وكان المسلمون في حماسة شديدة وحريصين على إنجاح الهجوم، ومع ذلك أصدر السلطان محمد الأوامر إلى جنوده بالانسحابلكي يتيحوا الفرصة للمدافع لتقوم بعملها مرة أخرى حيث أمطرت الأسوار والمدافعينعنها بوابل من القذائف ، واتبعتهم بعد سهرهم طوال الليل ، وبعد أن هدأت المدفعيةجاء قسم جديد من شجعان الإنكشارية يقودهم السلطان نفسه تغطيهم نبال وسهام المهاجمين التي لا تنفك عن محاولة منع المدافعين عنها ، وأظهر جنود الإنكشارية شجاعة فائقة وبسالة نادرة في الهجوم واستطاع ثلاثون منهم تسلق السور أمام دهشة الأعداء ، ورغم استشهاد مجموعة منهم بمن فيهم قائدهم فقد تمكنوا من تمهيد الطريق لدخول المدينة عند ( طوب قابي ) ورفعوا الأعلام العثمانية مما زاد في حماس بقية الجيش للاقتحام كما فتوا في عضد الأعداء .

وفي نفس الوقت أصيب قائد المدافعين( جستنيان ) بجراح بليغة دفعته إلى الانسحاب من ساحة المعركة مما أثر في بقية المدافعين ، وقد تولىالإمبراطور قسطنطين قيادة المدافعين بنفسه محل جستنيان الذي ركب أحد السفن فاراً من أرض المعركة ، وقد بذل الإمبراطور جهودا كبيرة في تثبيت المدافعين الذين دب اليأس في قلوبهم من جدوى المقاومة ، في الوقت الذي كان فيه الهجوم بقيادة السلطان شخصياً على أشده، محاولاً استغلال ضعف الروح المعنوية لدى المدافعين.

وقد واصل العثمانيون هجومهم في ناحية أخرى من المدينة حتى تمكنوا من اقتحام الأسواروالاستيلاء على بعض الأبراج والقضاء على المدافعين في باب أدرنة ورفعت الأعلام العثمانية عليها ، وتدفق الجنود العثمانيون نحو المدينة من تلك المنطقة ، ولما رأىقسطنطين الأعلام العثمانية ترفرف على الأبراج الشمالية للمدينة ، أيقن بعدم جدوىالدفاع وخلع ملابسه حتى لا يعرف ، ونزل عن حصانه وقاتل حتى قتل في ساحة المعركة.

وكان لانتشار خبر موته دور كبير في زيادة حماس المجاهدين العثمانيين وسقوط عزائم النصارى المدافعين ، وتمكنت الجيوش العثمانية من دخول المدينة من مناطق مختلفة وفر المدافعون بعد انتهاء قيادتهم ، وهكذا تمكن المسلمون من الاستيلاء على المدينة ، وكان الفاتح رحمه الله مع جنده في تلك اللحظات يشاركهم فرحة النصر ، ولذة الفوز بالغلبة على الأعداء من فوق صهوة جواده ، وكان قواده يهنئونه وهو يقول : (الحمد لله ليرحم الله الشهداء ويمنح المجاهدين الشرف والمجد ولشعبي الفخر والشكر).

كانت هناك بعض الجيوب الدفاعية داخل المدينة التي تسببت في استشهاد عدد من المجاهدين ، وقد هرب أغلب أهل المدينة إلى الكنائس ولم يأت ظهيرة ذلك اليوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 857هـ الموافق 29 من مايو 1453م ، إلاوالسلطان الفاتح في وسط المدينة يحف به جنده وقواده وهو يرددون ما شاء الله ،فالتفت إليهم وقال : لقد أصبحتم فاتحي القسطنطينية الذي أخبر عنهم رسول الله صلىالله عليه وسلم وهنأهم بالنصر ونهاهم عن القتل والنهب والسلب، وأمرهم بالرفق بالناس والإحسان إليهم ، ثم ترجل عن فرسه واستقبل القبلة وسجد لله على الأرض شكراً وحمداًوتواضعاً لله تعالى.

حادي عشر : معاملة محمد الفاتح للنصارى المغلوبين :

توجه محمد الفاتح إلى كنيسة( آيا صوفية ) وقد اجتمع فيها خلق كبير منالناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم ، وعندمااقترب من أبوابها خاف النصارى داخلها خوفاً عظيماً ، وقام أحد الرهبان بفتح الأبوابله فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان ، فأطمأن الناسوكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة ، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجواوأعلنوا إسلامهم ، وصلى فيها الفاتح صلاة العصر ، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بتحويل الكنيسة إلى مسجد وأن يعد لهذا الأمر حتى تقام بها أول جمعة قادمة ، وقد أخذ العمال يعدون لهذا الأمر ، فأزالوا الصلبان والتماثيل وطمسوا الصور بطبقة من الجير وعملوا منبراً للخطيب ، وقد يجوز تحويل الكنسية إلى المسجد لأن البلد فتحت عنوة والعنوةلها حكمها في الشريعة الإسلامية.

ثم أمر بدفن الإمبراطور بما يليق بمكانته ،وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدينة ، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع.

لقد حاول المؤرخ الإنجليزي ( ادوارد شيبرد كريسي ) في كتابة (تاريخ العثمانيين الأتراك ) أن يشوه صوره الفتح العثمانية للقسطنطينية، ووصف السلطان محمد الفاتح بصفات قبيحة حقداً منه وبغضاً للفتح الإسلامي المجيد ، وسارت الموسوعة الأمريكية المطبوعة فيعام 1980م في حمأة الحقد الصليبي ضد الإسلام ، فزعمت أن السلطان محمد قام باسترقاق غالبية نصارى القسطنطينية ، وساقهم إلى اسواق الرقيق في مدينة دارنة حيث تم بيعهم هناك.

إن الحقيقة التاريخية الناصعة تقول : إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى و الرفق بهم ، وافتدىعدداً كبيراً من الأسرى من ماله الخاص وخاصة أمراء اليونان ، ورجال الدين ، واجتمع مع الأساقفة وهدأ من روعهم ، وطمأنهم إلى المحافظة على عقائدهم وشرائعهم وبيوت عبادتهم ، وأمرهم بتنصيب بطريرك جديد فانتخبوا ( أجناديوس) بطريكا ، وتوجه هذا بعدانتخابه في موكب حافل من الأساقفة إلى مقر السلطان ، فاستقبله السلطان محمد الفاتح بحفاوة بالغة وأكرمه أيما تكريم ، وتناول معه الطعام وتحدث معه في موضوعات شتى ،دينية وسياسية واجتماعية ، وخرج البطريريك من لقاء السلطان ، وقد تغيرت فكرته تماماً على السلاطين العثمانيين وعن الأتراك ، بل والمسلمين عامة ، وشعر أنه أمام سلطان مثقف صاحب رسالة وعقيدة دينية راسخة وإنسانية رفيعة ، ورجولة مكتملة ، ولم يكن الروم أنفسهم أقل تأثراً ودهشة من بطريقهم ، فقد كانوا يتصورون أن القتل العام لا بد لاحقهم ، فلم تمض أيام قليلة حتى كان الناس يستأنفون حياتهم المدنية العادية في اطمئنان وسلام.

وهكذا فتحت مدينة الروم ، وكان عمر الفاتح آنذاك الخامسةوالعشرين عاماً ، وبعد حصار دام خمسين يوماً ، وهي المدينة التي حوصرت تسعاً وعشرين مرة ، وكان بها من السكان آنذاك أزيد من 300 ألف نسمة .
 

elsaid320

ستار جديد
فتح البوسنة والهرسك سنة 791 هـ ومعركة "قوص أوه" أو "قوصره"

فتح البوسنة والهرسك
سنة 791 هـ
ومعركة "قوص أوه" أو "قوصره"



كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها وازدهارها حينما اكتسحت أوروبا الشرقية، فتهاوت مدنها ودولها تحت ضربات الجيش العثماني المسلم، ووصلت طلائع هذا الجيش إلى مدينة "فيينا" لتحاصرها فترة من الزمن، ويتسابق ملوك أوروبا بإعلان الولاء والانقياد للسلاطين العثمانيين، الذين كان همهم الأول وشغلهم الشاغل الجهاد في سبيل الله، ونشر كلمة التوحيد في كل مكان.


ولنتوقف قليلاً في عهد السلطان "مراد الأول بن السلطان أورخان الغازي"، فقد كان من السلاطين العظام الذين جاهدوا في سبيل الله ففتحوا المناطق الواسعة في أوروبا.

وُلد هذا السلطان سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة، ونشأ على كريم الأخلاق، ولما شبَّ اشترك مع والده في جهاد اليونان، فأظهر بسالة لا تُوصف وإقدامًا لفت الأنظار، وبعد وفاة والده تولَّى الحكم سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية؛ فقضى كل سِني حكمه في جهاد مستمر.

كانت أول أعماله الجهادية فتح مدينة "أدرنة"، فجعلها عاصمة لدولته، وظلت كذلك حتى فـُتحت القسطنطينية، ثم ساق جيشه هو نحو البلقان، فتبوؤوا مدنها، وافتتحوا حصونها، وأبرم معاهدة مع ملك اليونان، بَيْدَ أن هذه المعاهدة لم تستمر طويلاً؛ حيث نقضها اليونان، واستطاع السلطان "مراد الأول" أن يستولي على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وأن يحيط بالقسطنطينية من جميع الجهات.

وهنا اضطرب ملوك أوروبا النصارى، وارتعدت فرائصهم، وأدركوا عظيم الخطر الذي تشكـِّله هذه الدولة المسلمة الفتيَّة، فطلبوا من البابا "أوربانوس الخامس" أن يأمر جميع الدول النصرانية أن تتحد للوقوف في وجه المسلمين، وإخراجهم من أوروبا قبل أن يجتازوا حدود البلقان، وحينئذٍ لا يستطيع أحد الوقوف في وجوههم، فيكتسحوا أوروبا كلها.

ولبَّى البابا استغاثتهم، وكتب لجميع ملوك أوروبا النصارى يأمرهم بالتأهب لمحاربة المسلمين، وأن يشنوا حربًا دينية للحفاظ على النصرانية في وجه الإسلام، ولم ينتظر الملك "أوروك الخامس" ملك الصرب وصول الإمدادات من أوروبا؛ بل استعان بالدول القريبة منه، وكوَّن جيشًا جرارًا من اليونان والصرب والمجر والرومان، وسار بهم إلى عاصمة العثمانيين "أدرنة"، فحاصرها، وكان السلطان "مراد" خارجها، فعاد مسرعًا بجيشه، وهاجم النصارى بغتة، حيث فوجئوا بالتهليل والتكبير وسيوف المسلمين تعلوهم؛ فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى ولوا الأدبار تاركين الثرى مخضبًا بدمائهم، وهكذا فشلت محاولة الصرب هذه ضد المسلمين، وكان من نتيجة هذه المعركة أن تسابق حكام البلقان لإعلان الولاء للمسلمين ودفع الجزية لهم.

وفي سنة إحدى وثمانين وسبعمائة تحالف ملك الصرب الجديد "لازارجر بلينانوفتش" مع ملك البلغار على مهاجمة المسلمين، لكنهما بعد عدة مناوشات تحقـَّقا من عجزهما عن هزيمة العساكر الإسلامية، فأبرما صلحًا مع السلطان "مراد"، على أن يدفعا له خراجًا سنويًّا.

ولم يستمر هذا الصلح طويلاً؛ فقد نقضه النصارى، وبدأوا يعدون العدة لمحاربة المسلمين، إلا أن العثمانيين لم يُمهلوهم؛ فاجتاحت جيوشهم بلاد البلغار، وهزمت ملكها، واحتلت مدنها، وانتهى الأمر بأسر ملك البلغار.
ولما علم ملك الصرب "لازار" بذلك بدأ يستعد لمواجهة المسلمين، فألف جيشًا من الصرب والبوسنة والهرسك والألبان والأفلاق والبُغدان، وتعاهد الجميع على محاربة المسلمين والاستيلاء على الدولة العثمانية، وبلغ الخبر مسامع السلطان "مراد"، فألف مجلسًا للشورى والنظر في الأمر، لكن ولده "بايزيد" هتف قائلاً في المجلس: "الحرب الحرب.. والقتال القتال"، فأبطل كل مشورة، ودقت طبول الحرب، وسار الجيش الإسلامي إلى الأعداء، فالتقاهم في سهل "قوص أوه" أو "قوصره" سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ونشب القتال بين الجانبين، ووثب المسلمون على النصارى، والتحموا معهم في القتال التحامًا لم يعُد يُرَى معه إلا جماجم طائرة، وفرسان غائرة، ودوي سلاح يدك الجبال الشامخة، وبقيت الحرب بينهما سجالاً مدة من الزمن؛ دافع الصليبيون الصرب خلالها دفاعًا مستميتـًا، وتناثرت الرؤوس، وأزهقت النفوس.

وفي أثناء المعركة انحاز صهر ملك الصرب بفرقته إلى المسلمين، ودارت الدائرة على الصربيين، وجرح ملكهم "لازار"، ثم وقع أسيرًا في يد المسلمين، وانتصر المسلمون على الصربيين، وكانت من المعارك الحاسمة في تاريخ أوروبا الشرقية، وظل ذكرها شهيرًا في أوروبا بأسرها، وزال استقلال الصرب، وخضعت كل بلادها للمسلمين، كما فقدت البلغار استقلالها من قبل.

وبعد المعركة أخذ السلطان "مراد" يتمشَّى بين الجثث، وينظر إليها بعين الاندهاش، إذ قام من بينها جندي صربي اسمه: "ميلوك كوبلوفتش"؛ فطعن السلطان بخنجر طعنة قاضية، وسقط -رحمه الله- ليسلم الروح بعد قليل.

وهكذا شهد سهل كوسوفا معركة "قوص أوه" أو "قوصره" الحاسمة بين المسلمين والصرب، وانتصر المسلمون انتصارًا عظيمًا، وأخذ الإسلام ينتشر في تلك البقاع حتى تحولت مناطق كاملة إلى الإسلام كما هو الحال في البوسنة والهرسك، وكوسفو، وغيرهما.

وكما يشهد هذا انتصار المسلمين؛ فقد شهد أيضًا غدر الصرب الذي ذهب ضحيته سلطان المسلمين "مراد"، فمات أوائل شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة من الهجرة -رحمه الله-، وسجل التاريخ منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أن الصرب لا يلتزمون بعهد ولا ميثاق، ولا يعرفون في تعاملهم مع المسلمين إلا لغة القوة والبطش وسفك الدماء.

وكما غدر الصرب وأعوانهم بقائد المسلمين في تلك المعركة غدروا بالمسلمين جميعًا في البوسنة والهرسك، فقتلوا وأسروا واغتصبوا، لا يردعهم خلق ولا دين، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، والعجب كل العجب أن وقف المسلمون -إلا من رحم الله- موقف المتفرج على هذا كله.
نسأل الله -تعالى- أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرجع إلى المسلمين أمجادهم، وأن تعود هذه البلاد إسلامية كما كانت.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم
 

elsaid320

ستار جديد
الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
بدأت تظهر رغبة القيادة النبوية الشريفة في نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله خارج جزيرة العرب، فكانت غزوة تبوك سنة "9هـ"، وبَعْث أسامة بن زيد سنة "11هـ" مؤشراً عسكرياً واضحاً علي ذلك، وعلى القدرة على الرد على تحديات أقوى دول العالم إذ ذاك.

فانطلق أسامة ومن ورائه زهرة قوات المسلمين لم يتخلف منهم أحد وعلى رأسهم المهاجرون الأولون، متقدماً باتجاه الشمال، وعسكر في الجرف على بعد فرسخ من المدينة ريثما يتم تجميع المقاتلين، هناك بلغته أنباء مرض رسول الله -- فتوقف عن المسير وظل معسكراً بجنده، لينظر ما الله قاضٍ برسوله –-.
وبعد قليل لحق الرسول -- بالرفيق الأعلى، وتولى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- قيادة الأمة، وبدأت الخلافة الراشدة، ثم بدأت بوادر الارتداد عن الطريق تتحرك، واشرأبت -كما تقول عائشة رضي الله عنها- اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية.
وهنا أعلن أبو بكر -رضي الله عنه- أنه سيقف بوجه الردة وسيُقاتلها ولو تخطفته الذئاب، وأصرّ في الوقت نفسه على أن يمضي جيش أسامة إلى هدفه كما أراد رسول الله -، وعندما اعترض عليه الصحابة بأن قاعدة الإسلام مهددة من كل جانب ولا جيش فيها، قال: "ما كنت لأرد جيشاً جرده رسول الله --".
ما لبث أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- أن حول خطة الجهاد صوب الأهداف التي بدأ الرسول -- التحرك نحوها في أعقاب صلح الحديبية بالكلمة حيناً والسلاح حيناً آخر، والتي جاءت الردة بمثابة عائق مؤقت عن مواصلة التحرك في سبيلها؛ تلك هي السعي من أجل تنفيذ عالمية الإسلام وإسقاط كافة النظم الباغية الكافرة التي تقف في طريق هذا الهدف السامي، إن هذا هو المغزى الأوحد لحركة الفتح الإسلامي في مدى العقدين اللذين أعقبا وفاة رسول --.

ويتهافت قول عدد من المؤرخين المعاصرين: بأن دافع الفتح الإسلامي إنما هو اقتصادي صرف، يتمثل في السعي من أجل الغنى بعد الفقر، والشبع بعد الجوع، ومغادرة فقر الصحراء وجدبها صوب الأراضي الخصبة المعطاءة، وإننا بمجرد إدراك شرعية الجهاد في الإسلام من قوله -تعالى-: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(الأنفال:39)، نصل إلى رفض هذه المقولة.

أما في الواقع التاريخي أي من خلال مجريات الفتح ومعطياته وما صدر خلال ذلك كله من تصريحات لقادة المسلمين وسفرائهم، مما نجد تفاصيله في بطون مصادرنا التاريخية، فإنه يُقدم لنا الدليل العملي على صدق التوجه الديني الخالص لهذه الفتوحات وخطأ القائلين بالدافع المادي للفتح.
إن ما قاله المغيرة بن شعبة بن عامر لرستم قائد الفرس، وما قاله المغيرة بن زرارة لكسرى نفسه، ليس سوى نماذج فحسب لما قيل في هذا الاتجاه: "ما لهذا -أي لطلب المال- جئناكم، فوالله لإسلامكم أحب إلينا من صلحك، الله بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
وبمجرد الرجوع إلى الوقائع التاريخية نفسها يتهافت قول القائلين: بأن الفتح الإسلامي جاء محاولة من أبي بكر -رضي الله عنه- لإشغال العرب عن العودة إلى ردة جديدة، وكأنه ليس جهاداً إيمانياً يتوجب على المسلمين القيام به لفتح العالم وإعادة تنظيمه.

فنحن نقرأ في الطبري على سبيل المثال الرواية التالية: كتب أبو بكر -رضي الله عنه- إلى قائديه خالد وعياض: "أن استنفرا من قاتل أهل الردة، من ثبت على الإسلام بعد وفاة محمد -- ولا يغزون معكم أحد ممن ارتد"، ونقرأ كذلك: "ولا تستعينوا بمرتد في قتال عدو حتى أرى رأيي"، ثم يعلق الطبري قائلاً: "فلم تشهد الأيام -أي الفتوحات في عهد أبي بكر- مرتداً".
فانطلقت قوات المسمين تعمل على جبهتين عريضتين: العراق والشام:
في الجبهة الأولى:
تمكن عدد من القادة: المثنى بن حارثة الشيباني، وعياض بن غنم، ثم خالد بن الوليد من تحقيق عدد من الانتصارات المهمة ضد المواقع الفارسية في جنوب غرب العراق توّجت في مدى يقل عن السنتين بدخول الحيرة عاصمة المناذرة حلفاء الفرس في العراق، ثم ما لبث أمر أبي بكر أن صدر إلى خالد بمغادرة العراق، لإسناد إخوانه في اليرموك ضد الجيش البيزنطي هناك، وأعقب خالداً في العراق عدد من القادة أبرزهم -ولا ريب- سعد بن أبي وقاص الذي حقق انتصاراً رائعاً على الفرس في معركة القادسية عام "15هـ" حيث سحق زهرة قواتهم في العراق.

وأعقب هذا الانتصار الحاسم بانتصارين آخرين تمثل أحدهما بتوجيه ضربة أخرى للقوات الفارسية في جلولاء، وتمثل الآخر باكتساح المدائن عاصمتهم القديمة في العراق، وبعد أربع سنوات حشد الإمبراطور الساساني الأخير قوى قيل أنها جاوزت الخمسين ألفاً عدداً، وعند نهاوند على الحدود الجنوبية الفاصلة بين العراق وبلاد فارس جرى لقاء حاسم لا يقل خطورة عن معركة القادسية، انتصر فيه المسلمون وجاء انتصارهم بمثابة تحطيم نهائي لآخر سدود العسكرية الساسانية وقُتل آخر أباطرتها في أقصى الشمال، ومن ثم أطلق العرب على معركة نهاوند اسم فتح الفتوح.
وثمة فرق عسكرية أخرى كانت قد تفرغت لفتح الأقاليم الشمالية، وبخاصة الجزيرة الفراتية وأذربيجان وأرمينيا، وقد حققت هي الأخرى نجاحاً مُذهلاً في اختزال الزمان والمكان والوصول إلى أهدافها بسرعة منقطعة النظير.
أما في الجبهة الشامية:
فقد انطلقت أربع فرق، إحداها بقيادة عمرو بن العاص، ووجهته فلسطين، والأخرى بقيادة شرحبيل بن حسنة، ووجهته الأردن، والثالثة بقيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، والرابعة بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ووجهته حمص.

ولقد استنفرت البدايات الأولى للانتصارات التي حققتها هذه الفرق القيادة البيزنطية التي أخذت تُدرك أكثر فأكثر خطورة الدولة الإسلامية الناشئة على وجودها في بلاد الشام، فحشد الإمبراطور هرقل جيشاً كبيراً، ولى قيادته أخاه فردريك الذي تحرك صوب أواسط الشام، فكان على قادة الفرق الأربع أن يستشيروا القيادة المركزية في المدينة، فكان جواب أبي بكر أن اجتمعوا عسكراً واحداً، والقوا زحف المشركين بزحفكم فأنتم أنصار الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفر به.
وعند اليرموك في أواسط سوريا تم اللقاء الحاسم بين الطرفين، وإذ طال اللقاء دون ظهور نتيجة نهايته أصدر أبو بكر -رضي الله عنه- أمره المعروف إلى خالد أن يغادر جبهة العراق ويهرع لنجدة إخوانه في الشام، فقرر خالد اختزال الزمن ذي الأهمية الكبيرة في الحروب واجتياز الصحراء عبر خط مستقيم إلى هدفه بدلاً من الطريق التقليدي الطويل.
وبعد أيام قلائل لقيت فيها قوات خالد المصاعب والمتاعب وصل معسكر إخوانه في اليرموك، وتولى قيادة المعركة الحاسمة التي انتهت بسحق القوات البيزنطية وفتح الطريق أمام المسلمين لاجتياح المواقع والمدن الشامية الواحدة تلو الأخرى.

وفي فلسطين تمكن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عند أجنادين من تحقيق انتصار لا يقل أهمية عن اليرموك، فتح الطريق لتصفية المدن الفلسطينية وحصار القدس، ثم استسلامها أخيراً وتوقيعها شروط الصلح بحضور الخليفة عمر بن الخطاب نفسه -رضي الله عنه- الذي ما لبث أن عقد مع كبار قادته مؤتمراً في الجابية؛ لتحديد إستراتيجية الفتوحات في المرحلة التالية.
فانطلق عمرو بن العاص -رضي الله عنه- ففتح مصر والإسكندرية وبرقة وطرابلس الغرب، وفتح أبو عبيدة -رضي الله عنه- دمشق واستخلف عليها يزيد بن أبي سفيان، وبعث خالد بن الوليد إلى البقاع ففتحه بالسيف، وكانت موقعة القادسية التي انتصر فيها المسلمون على الفرس، وتم فتح المدائن، وفتحت همذان ثم الري، ثم أذربيجان.

وفي خلافة عثمان حاول الفرس والروم استرداد بعض مواقعهم القديمة، فقاموا بسلسلة من حركات التمرد تمكن الخليفة من سحقها بسهولة، وتم أول قتال بحري في عهده -رضي الله عنه، فقد سمح لرجليه في مصر والشام: ابن أبي سرح ومعاوية أن يبنيا أسطولاً إسلامياً تمكن خلال سنوات قلائل من تحقيق عدداً من الانتصارات كان أبرزها فتح قبرص ورودس، ومعركة ذات الصواري التي تم فيها سحق الأسطول البيزنطي المكون من خمسمائة قطعة بحرية، ثم كانت أحداث الفتنة في مرحلتيها الأولى والثانية بمثابة توقف زمني قصير لم يتجاوز السنوات العشر.
نسأل الله أن يُعيد للمسلمين هذه الأمجاد، وأن يردهم إلى رشدهم، والعمل بدينهم فهو سبيل عزهم.
 

elsaid320

ستار جديد
سر الفتوحات الاسلامية

سر الفتوحات الاسلامية



غالبا ما ينسب الفتح إلى قائد الجيش الإسلامي إذا كتب الله للمسلمين الظفر في تاريخ الجهاد الإسلامي المبارك، أوإلى السلطان الذي تم ذلك في عهده. إلا أن هناك حقيقة مخبوءة بين ثنايا التاريخ لابد من إبرازها، لأن قادة الجيوش الإسلامية حاشا الصحابة ليسوا كلهم في مستوى الإعتداد ونسب الفتوحات إليهم، كما أن السلاطين والملوك ما كانوا كلهم على دين وخلق ومنهاج يرفعهم إلى شرف نعتهم بالفاتحين. الحقيقة المخبوءة أنّ هناك سرّاً في كل فتح إسلامي، وهوسر واحد لا يتعدد بتعدد الفتوحات، ولكن يكمن فيها كمون الروح في الجسد.

فإذا كان بين الحق الإسلامي الخالص والباطل الجاهلي فَيْصَلاً تاريخيا مشهودا هوالعهد النبوي والخلافة الراشدة المهدية، فإن ما بعد ذلك كان فتنة انقلبت فيها الخلافة بعَدْلِها وشُوراها وإحسانها إلى مُلك عضُوض ظالم ومستبد ومنافق.
والفتنة كما وصفها سيدنا حذيفة رضي الله عنه: "إختلاط الحق بالباطل"، فكما أنه إبان الحق الإسلامي الخالص ـ عهدَيْ النبوة والخلافة على منهاج النبوة ـ كانت فتوحات، فكذلك إبان العهدالفتنوي ـ عهد الملك العاض ـ فتح المسلمون وظفروا، غير أن الفتح في هذا العهدالفتنوي اختلط فيه الحق بالباطل، وامتزجت فيه روح الإسلام بكدورات الجاهلية. فكيف كان ذلك؟ وكيف نميز بين الحق والباطل في هذا الأمر؟ إذا بحثنا في هاتين النقطتين سنعثر على سر الفتوحات الإسلامية المظفرة، ذلك السر الذي بدونه لا يكون فتح ولا نصر ولا تمكن في الأرض. فتوح بعد الإنكسار التاريخي ما ميز العهدين النبوي والراشدي ـ في هذا الجانب ـ أن القادة الفاتحين تشرفوا بنور الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفازوا بالتزكيتين القرآنية والنبوية، أمثال سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح والقعقاع بن عمرووغيرهم من الأبطال الحقيقيين. لذلك كانت أخلاقهم وبطولاتهم الجهادية على مستوى واحد من العلووالسمو، وغالبا ما توِّجت مسيرتهم بالاستشهاد، ولم يمت على فراش المرض منهم إلا القليل.

لكن بعد الإنكسار التاريخي ـ وهوإنتقال الخلافة إلى مُلك ـ ظهر قادة جدد وفاتحون وراءهم ملوك صنعوهم لدولهم، يخدمون المُلْك ولا يخدمون النبوة والخلافة، يساندون الدولة ولايسندون الدعوة، أمثال زياد بن أبيه ويزيد بن المهلب والحجاج بن يوسف وأبي مسلم الخولاني إن ملوك بني أمية وبني العباس نزعوا الحكم بالسيف والقتل، فكان سيفهم أولا على الأمة، وما يميزهم عن الملك الجبري الذي يمثله حكام المسلمين في زمن الضياع الذي نعيشه، هوأنهم رفعوا السيف في وجه الفرس والروم والصين وغيرها من أمم الشرك أيضا، فيما كان حكام الجبر يد الجاهلية الغربية على المسلمين وحسب.

فقد فتحت في عهدهم بلدان وبلدان، واتسعت رقعة الدولة الإسلامية حتى عُدَّ ذلك في مناقبهم، واستحق عليه قادتهم من أمثال الحجاج المبير الشكر والتقدير، وتناسى المقدرون الشاكرون أن هؤلاء قد جبيت إليهم من تلك الفتوح ثمرات كل شيء، واستأثروا بالمال العام لأنفسهم، وملأوا بلاطاتهم بجواري الروم والفرس، وجنوا من الجهاد جنى طبيعيا في اتباع الشهوات وتقوية سلطان الدولة على الدعوة.

يقتل أمثال قتيبة بن مسلم إذا شمت منه رائحة الولاء للدعوة ويستراح منهم، ويستبدلون بمُخلصي الدولة من القادة الميدانيين ويسجن موسى بن نصير فاتح إفريقية والأندلس على يد سليمان بن عبد الملك للسبب نفسه ولكونه لم يبعث له بكل مغانم الفتح العظيم، ويصادر ماله ويقتل ولده ويعرض به ويشرد، وهكذا تمت تصفية جهاز الدولة العسكري من ذوي الأيمان والمروءة، وجيئ بحراس الدولة الذين يسبحون بحمد "الخليفة"، ويبذلون الجهد في تقوية سلطانه.

هذه سيرتهم في مغانم الفتوح والله أعلم بنواياهم وبواعثهم، ولكن الأجدر أن نذكر أن الباعث الملوكي إمتزج بأهداف تقوية الأمة ونشر الإسلام، لأن جمهور الأمة ـ وهوالذي يشكل الجيش الإسلامي الفاتح ـ كانوا متحركين بباعث النصر أوالشهادة لإعلاء كلمة الله، وهو الباعث نفسه في عهدي النبوة والخلافة الراشدة.وما ركز ه في روح الجيش الإسلامي هوالحضور القوي للعلماء العاملين والصوفية المجاهدين، الذين كانوا يمثلون الدعوة المتغلغلة في الأمة عن طريق التربية والتعليم في المسجد والزاوية والرباط.

أنظر كيف اختلط الحق بالباطل حتى رأى المستشرقون في فتوحات ما بعد الإنكسار التاريخي توسعا إمبراطوريا لدول تعاقبت على حكم المسلمين، حتى عدوا النبوة حُكما هاشميا في سياق الحكم الأموي والعباسي والسلجوقي والعثماني ... في الأمر حق وباطل، حق مثلته الدعوة السارية في الجيش الإسلامي الفاتح، يغنم فوق حظ من المغنم وجود المآذن في البلدان المفتوحة، وفيه باطل "قائد" و"حاكم"، شوش باعثه على الباعث العام، وكدر سمته الخاص على السمت العام، فأخذ المستشرقون الخاص ـ بسوء نية ـ وعمموه على القوة الإسلامية في عهد الملك العاض. يستطيع المستشرقون وغيرهم أن يقرأوا في التاريخ المكتوب بأيدينا أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية ويستطيعون أن يقرأوا كيف كان عبد الملك بن مروان يرسل إلى مبيره الحجاج أن ينتقي له أحسن الجواري ويبعث بهم إلى قصره بدمشق وعدادهن ثلاثون جارية.

وروى بن كثير: "وذكر ابن عساكر في تاريخه: أن عمر بن عبد العزيز كان يعجبه جارية من جواري زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فكان سألها إياها إما بيعا أو هبة، فكانت تأبى عليه ذلك، فلما ولي الخلافة ألبستها وطيبتها وأهدتها إليه ووهبتها منه، فلما أخلتها به أعرض عنها، فتعرضت له فصدف عنها، فقالت له: يا سيدي فأين ما كان يظهر لي من محبتك إياي؟ فقال: والله إن محبتك لباقية كما هي، ولكن لا حاجة لي في النساء، فقد جاءني أمر شغلني عنك وعن غيرك، ثم سألها عن أصلها ومن أين جلبوها، فقالت: يا أمير المؤمنين إن أبي أصاب جناية ببلاد المغرب فصادره موسى بن نصير فأخذت في الجناية، وبعث بي إلى الوليد فوهبني الوليد إلى أخته فاطمة زوجتك، فأهدتني إليك. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدنا والله نفتضح ونهلك، ثم أمر بردها مكرمة إلى بلادها وأهلها".

كان عمر بن عبد العزيز يقيم منهاج النبوة في حكمه، وكانت مدة حكمه نشازا في الحكم العضوض الذي ينحى الخط الكسروي والقيصري، لذا تراه عامل الجارية تلك المعاملة وشنع على من سبقه ذلك الصنيع الفظيع، أين هذا من رسالة عمه عبد الملك إلى الحجاج يأمره أن يبعث إليه بثلاثين جارية: عشراً من النجائب، وعشراً من قعد النكاح، وعشراً من ذوات الأحلام؟ سلوك عمر سلوك راشدي يعود بنا إلى صفحة رائعة من صفحات جهاد الصحابة المجيدة، وهو ما رواه صاحب فتوح الشام أن الصحابة لما فتحوا ديار بكر عرضت عليهم الغنائم فبينما هم كذلك إلى أن عرضت عليهم جارية رومية تخجل الشمس منها وعليها زي الملوك فأطرق المسلمون إلى الأرض يستعملون الأدب مع الله في قوله: ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم﴾ .

ذلك لنعلم أن تاريخ الملك العضوض تاريخ فتنوي يحتاج إلى فرز ما هوحق عما هو باطل، وهو موضوع محض يحتاج إلى تخصيصه بالبحث، وما يهم في هذه المقالة أن ظفر المسلمين في فتوحاتهم لم يكن نتيجة عزم الملوك ولا حنكة قادة الجيوش، وإنما يعود إلى الروح الإيمانية التي لا تقاومها النفوس الحريصة على الحياة الدنيا، روح رجال الله في عهدي النبوة والخلافة الراشدة، وكان بطل الإسلام خالد يدرك هذه الحقيقة فيكتب إلى قائد الفرس هرمز: "أما بعد فأسلم تسلم أو أعقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية وإلا فلا تلومن إلا نفسك فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة" .

فرق كبير بين هذه الروح وروح أحد قادة الأمويين، أعني يزيد بن المهلب القائل: والله للحياة أحب من الموت، ولثناء حسن أحب إلي من الحياة، ولو أنني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها غداً ما يقال في إذا أنا مت كريماً.

أبمثل هذا فتحت جرجان وطبرستان؟ والعجب أن يزيد هذا نصب راية العداء ضد بني أمية في الأخير، مدعيا الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة العدل العمرية، فقال الحسن البصري للناس: كلما نعر كلب أو ديك تبعتموه.

قال ابن كثير ينبه على سر فتوح بني أمية: "فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الاسلام في مشارق الارض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلات قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من الاقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه"
__________________
 

elsaid320

ستار جديد
الدولة الطاهرية

لتاريخ الإسلامي
الدولة الطاهرية
(205-259هـ/821-873م)
قامت هذه الدولة فى خراسان، وقد أسسها طاهر بن الحسين أحد كبار قواد الجيش فى عهد الخليفة المأمون.
ولكن كيف يتسنى له أن يقيم دولة والدولة العباسية فى أول عهدها، وفى عصر المأمون الذى يعد العصر الذهبى للدولة العباسية؟!
إن لقيام هذه الدولة قصة، فقد كان لإقليم خراسان وضع خاص فى الدولة العباسية منذ نشأتها، إذ كان هؤلاء الخراسانيون-كما علمتَ فى قيام الدولة العباسية-يشعرون بأنهم أصحاب فضل على الدولة العباسية، وبأن سيدهم "أبا مسلم الخراساني" هو المؤسس الأكبر لهذه الدولة، ورغم ذلك لم يحسن العباسيون جزاءهم حين قتل المنصور أبا مسلم.
والواقع أن الخلافة العباسية كانت تتجاوز كثيرًا عن الخراسانيين، وتحاول إرضاءهم؛ اعترافًا بفضلهم على الدولة. وفى عصر المأمون، كان طاهر بن الحسين وابنه عبد الله من كبار رجال الدولة وخيرة قادتها فى ذلك الوقت؛ الذى بدأ فيه الصراع بين الأمين والمأمون.
ولقد وقف طاهر بن الحسين إلى جوار المأمون فى كثير من المواقف الحرجة حتى تمكن من الخلافة. ولم يمرَّ إلا عامان حتى أقدم "طاهر بن الحسين" على خطوة جريئة فى سنة 207هـ/ 823م. أتدرى ما هي؟ لقد قطع الدعاء فى الخطبة للمأمون، وكان قطع الدعاء يعنى الاستقلال عن الخلافة.
ولكن يشاء الله أن يموت طاهر فى العام نفسه، ترى هل تعود الدولة الطاهرية إلى الدولة العباسية بعد موت مؤسسها؟
لقد تولى ابنه طلحة بعد أبيه بأمر من الخليفة المأمون، وظل الطاهريون يحكمون خراسان، ولكنهم يتبعون "الدولة العباسية" تبعية اسمية مما جعل الخلافة العباسية تلجأ إلى الطاهريين، تلتمس منهم المؤازرة والمساندة ضد الخارجين على سلطانهم.
لقد حارب عبدُالله بن طاهر نصرَ بن شبث حين قام بثورة فى شمال حلب سنة 209هـ، وأتى به أسيرًا إلى المأمون. وظل الطاهريون على ولائهم للعباسيين حيث اشترك عبد الله بن طاهر فى إخماد فتنة وقعت فى عهد المعتصم بطبرستان، وهكذا استقل الطاهريون استقلالا داخليا هادئًا فى خراسان، وظلوا يتولون أمرها، ويتوارثون الإمارة فيها، ولم يمنعهم استقلالهم من مساندة الخلافة العباسية، ومساعدتها فى كل ما واجهته من فتن وثورات.
ولكن عندما جاءت سنة 259هـ/ 873م، استطاع يعقوب الصفار أن يقيم دولته على أنقاض دولة الطاهريين.
 

elsaid320

ستار جديد
الدولة الصفارية

التاريخ الإسلامي
الدولة الصفارية
(254-290هـ/ 868-903م)
قضى يعقوب بن الليث الصفار على الدولة الطاهرية، وأقام دولته على أنقاضها، وقد لقب بهذا اللقب؛ لأنه كان فى بداية أمره يحترف صناعة النحاس الأصفر بسجستان، ثم اشتهر بالفروسية، فتطوع لقتال الخوارج مع رجل صالح كان يظهر التطوع لقتال الخوارج فى سجستان بجنوب خراسان، فقاتل معه يعقوب، ثم مع من خلفه حين مات، فصار الأمر إليه، فراح يحارب الخوارج فى "سجستان" معلنًا ولاءه للخليفة المعتز، ومظهرًا شجاعة خارقة فى قتال الخوارج حتى سيطر على سجستان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصار يمد نفوذه على الأقاليم المجاورة حتى ملك "هراة"، وكانت تابعة للدولة الطاهرية.
وقد توجه "الصَّفَّار" إلى "كِرْمَان"، وبسط نفوذه عليها، ثم توجه إلى فارس فأخذها بعد قتال عنيف مع غريمه "على بن الحسين" الذى وقع أسيرًا جريحًا فى يده.
ولم يكتفِ بهذا، بل توجه إلى خراسان، وحاصر العاصمة "نيسابور" ودخلها سنة 259هـ/ 873م -خلافًا لما أمره به الخليفة- بحجة أن أهل خراسان طلبوه للضعف الذى يعانيه الطاهريون فى عهد الخليفة العباسى "المعتمد"، وقبض على جميع الطاهريين بها، واستولى على البلاد التى كان يحكمها الطاهريون.
وتقدم "الصّفار" فى البلاد بعد أن هزم خصومه، وذهب إلى "طَبَرِسْتان" فدخلها سنة 260هـ/874م، وهزم صاحبها "الحسن ابن زيد العلوي" الذى عاد إليها مرة أخرى فى نفس العام 261هـ/875م.
ويدرك الخليفة خطره، فقد اتجه إلى بغداد، ولم يبْقَ فى يد الخليفة إلا هي، بعد استيلائه على "الأهواز"، فأمر الخليفة أن يجهز جيشًا بقيادة أخيه الموفق لمواجهة "يعقوب"، وذلك فى عام 262هـ/ 876م
ويشاء الله أن تدور الدائرة على يعقوب فيهزم، ولكن "المعتمد" يرى الاحتفاظ بولائه للخلافة، فمثله يمكن الاعتماد عليه فى مواجهة الثورات والانتفاضات، فبعث إليه يستميله ويتَرضَّاه، ويقلده أعمال فارس وغيرها مما هو تحت يديه، ويصل رسول الخليفة إليه، وهو فى مرض الموت، ولكن بعد أن كَوَّنَ دولة، وبسط سلطانه عليها.
ويظهر أخوه (عمرو) من بعده ولاءَهُ للخليفة، فيوليه الخليفة خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد، وكان "عمرو" كأخيه ذا أطماع واسعة، فانتهز فرصة تحسن العلاقة بينه وبين الخليفة وراح يتمم رسالة أخيه.
لقد اتجه بنظره إلى إقليم ما وراء النهر الذى كان يحكمه السامانيون، ولكن قوتهم لا يستهان بها، فما العمل؟
كتب إلى الخليفة المعتضد ليساعده على تملك هذا الإقليم، ولكنْ على الباغى تدور الدوائر، وما طار طائر وارتفع إلا كما طار وقع، لقد هُزم عمرو بن الليث الصفار هزيمة ساحقة ماحقة، ووقع أسيرًا فى أيدى السامانيين، وأُرسل به إلى بغداد ليقضى عليه فيقتل سنة 289هـ/ 902م.
ولم تكد تمر ثمانى سنوات حتى كان السامانيون قد قضوا نهائيا على الصفاريين واستولوا على أملاكهم، والأيام دول.
***
 
أعلى