Mak
المشرف العام
كان جاثما هناك على صدرها بنظراته النارية وشكله المسخي اللابشري، وهي في سبات لا حول لها ولا قوة..ومن بين الستائر التي كانت ترتجف في عتمة الغرفة المخيفة، كان رأس حصان يطل بعينيه الحمراوين، اللتين كانتا تتوهجان في الظلام كأنهما جمرتان من جهنم.
مشهد أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه يجسد أسوأ كابوس يمكن ان يؤرق نوم إنسان.
وهذا بالفعل ما كانت تمثله هذه اللوحة للفنان السويسري الأصل البريطاني الجنسية "يوهان هنريخ فوسيلي" (1741-1825) التي تحمل عنوان"الكابوس"، وهي أبرز ما يتصدر معرض خاص عن فن "الرعب القوطي" في العصر الرومنسي وما بعده، يقام في معرض "تيت بريتين" في العاصمة البريطانية.
لقد بقيت تلك اللوحة عالقة في مخيلتي تستفزني بقوة وتستحضر في ذهني الكثير من الحكايات التي سمعتها من أشخاص عانوا مرارة الكابوس.
إن تجربة الكوابيس المخيفة، كما يقول الباحث "ستيورات هولرويد" في كتابه "عوالم الحلم"، هي "تجربة إنسانية عالمية، فكلنا يستيقظ بدءا من الطفل الصغير إلى الكهل المسن، ونحن نرتجف من عالم تعلـّق فيه كافة القوانين الطبيعية، ويفقد فيه المنطق والتوقع الذي يواسي أيامنا كافة معانيه."
عالم الكوابيس عالم يخرج عن قوانين الطبيعة ويضع الحالم في رعب لا يحسد عليه
وتجربة الكابوس والحلم المزعج تجربة قديمة قدم الإنسان، ففي ملحمة "جلجامش" الآشورية التي كتبت في بابل (في العراق حاليا) قبل أكثر من 4000 عام، والتي تعتبر أحد أقدم النصوص البشرية، هناك الكثير من الأحلام والكوابيس.
ففي إحداها "يحلم البطل "جلجامش" أنه يصعد مع صديقه "إنكيدو" قمة جبل ينهار، ويقود مخلوق ذراعاه من الريش وأظفاره مثل مخالب النسر "إنكيدو" إلى "مملكة الغبار" حيث يحيا الأموات، ونصفهم من الإنس ونصفهم من الطير في ظلام دامس."
الكابوس ومصاصو الدماء
في الأساطير البابلبية في بلاد ما بين الرافدين، كان هناك اعتقاد بوجود مخلوق ليلي مصاص للدماء يدعى "ليليث". وحسب "قاموس برويرز الوجيز للحكم والخرافات" كان يعتقد أن هذا المخلوق يسكن البراري ولاسيما خلال الجو العاصف ويشكل خطورة لاسيما على الأطفال.
كان الاعتقاد أن ليليث أو سكوبي أو عفريتة أو جنية كانت تهاجم الرجل في نومه وتسلبه قواه
والاسم ساميّ الأصل من جذر يعني "ليل"، وهو الوقت المفضل لظهور المخلوق ونشاطه.
وفي كتابات الأحبار اليهود الأوائل يشار إليها باعتبارها زوجة "آدم" الأولى.
ويضيف الدكتور "بوب موران" في "موسوعة اللاموتى" بأن "ليليث" كانت معروفة في بلاد "سومر" القديمة (العراق حاليا)، وفي القرن الثاني للميلاد يقول الحاخام "حانينا بن دوسا":" لا يمكن للمرء النوم وحيدا في منزل، لأن من ينام وحده في منزل تنال منه ليليث." وهي تمتص طاقة الرجل النائم وأحيانا تسرق منه سائله المنوي وتتركه منهكا".
وعند الرومان كان الاعتقاد أن سبب الكابوس يعود إلى كائن أو عفريت كان يزعج الناس خلال النوم متخذا شكلا ذكريا يسمى "إنكوبي"(أو إنكوبيس) يزعج النساء النائمات، أو شكلا أنثويا يسمى "سكوبي"(أو سكوبيس) يزعج الرجال النيام، وربما كان المخلوقان كائنا واحدا قادرا على التجسد حسب الجنس الذي يريد، وربما كان مستوحى من "مورمو" الإغريقية التي كانت أنثى ذات شهية جنسية هائلة.
ورغم أن "سكوبي" (أو "سكوبيس") كانت مصدر رعب في روما القديمة، إلا أن هذه العفريتة استحوذت على اهتمام أكبر في بداية المسيحية، وحتى القرون الوسطى، عندما كان الاعتقاد السائد أنها تتسلط على الرهبان كي تلهيهم عما نذروا إليه أنفسهم في خدمة الكنيسة.
ففي كتاب "موسوعة الكائنات الشريرة" للراهب الإيطالي "فرانسيسكو ماريا غوازو" الخبير في دراسة الشياطين والعفاريت، (والذي كتبه في القرن السادس عشر للميلاد)، هناك تفصيل لخواص "سكوبي" في قائمة العفاريت التي تعذب الأتقياء والصالحين.
كان الاعتقاد حتى القرن 18 أن روحا شريرة تتخذ شكل امرأة جميلة تسبب كوابيس الرجال
ويقول الراهب غوازو:" هذه الأشكال من الحلم التي يعاني منها الرهبان هي في الواقع حقيقية. وهي تجارب سببها التجسد التام والفعلي لهذه العفريتة التي لا تريد أن تجعلهم يحنثون بما أقسموا عليه من عهود بالعفة فقط بل تريد أيضا إلحاق الأذى بهم."
الكابوس في ثقافات العالم
إن كلمة "كابوس" بالعربية يعتقد أن أصلها إغريقي من كلمة "إنكوبيس". أما بالإنكليزية Nightmare فيرجع أصلها إلى "مخلوق ليلي من الأساطير الجرمانية والإسكندنافية، كان يعرف باسم "مارا"Mara) (ويقول الدكتور بوب كوران في كتابه "موسوعة اللاموتى:" كان الناس يخشون حضور " مارا" أثناء النوم، لأنه كان ذو قدرة على امتصاص الطاقة من الجسم وتشويش العقل بشكل كبير.
لكن الدكتور "جون غروهول" المشرف على موقع "مركز النفس" الإلكتروني يقول إن اسم "مارا" يظهر أيضا في اللغات الهندو-أوروبية، ويعتقد أن مصدره من الشرق، وهو يظهر بالفعل في الأساطير البوذية كاسم عفريتة حاولت إغواء "غواتاما بوذا" ( 563-483 ق.م) باتخاذها هيئة امرأة جميلة، لكن بوذا قاوم إغراءها.
ومما يثير الأهتمام والدهشة أن كلمة "كابوس" في ثقافات معظم شعوب الأرض ولغاتها لها تقريبا نفس الدلالة والمعنى:" كائن أو روح شريرة أو عفريت يزعج النائم ويمتص قواه الجسدية( وغالبا الجنسية).
الأحلام هبة إلهية
اعتقد القدماء أن الأحلام عموما تنقل رسالة من الآلهة إلى البشر
دراسة الأحلام بشكل عام قديمة ووجدت لها آثار على الألواح الحجرية التي ترجع إلى سومر أقدم حضارة عرفتها البشرية ( في بلاد ما بين الرافدين.)
وفي القرن الثاني قبل الميلاد كان هناك 320 معبدا في بلاد اليونان وحوض البحر الأبيض المتوسط مكرسة للأحلام ولعبادة الإله "أسكيولابيوس" إله الشفاء.
واعتقدت بعض الشعوب القديمة مثل الإغريق أن الأحلام عموما هبة من الآلهة لكشف معلومات للبشر وزرع رسالة معينة في عقل الشخص النائم.
الطبيب الإغريقي "كلاوديوس جالينوس" الذي عاش بين 130-200 ق.م لم ينسب الحلم إلى اللاوعي بل تبنى وجهة النظر السحرية ونسبها إلى الآلهة.
وسبق أفلاطون فرويد بمدة تصل إلى 2300 سنة في رؤيته لتفسير الأحلام حين أورد في كتابه "الجمهورية":" حتى مع وجود الرجال الطيبين، فهناك جانب منحط وحيواني متوحش يطل برأسه أثناء النوم."
الأحلام عند العلماء العرب
اعتقد العلماء والباحثون منذ القدم بوجود صلة بين الكوابيس والأحلام والعقل الباطن
اهتم العلماء العرب المسلمون بالأحلام وتفسيرها وبات ذلك علما بحد ذاته عند بعض المفسرين التابعين مثل "محمد بن سيرين (المتوفى عام 110 للهجرة) ، كما اهتم به مفكرون مثل "محمد بن علي محي الدين بن عربي" المولود في الأندلس ( 1164م-1240م) ( في كتابيه "الفصوص" و"الفتوحات المكية")، و"ابن خلدون "، خصوصا في إطار اهتمامهم بالتفريق بين الحلم الذي مصدره الوحي (الرؤيا الصالحة) والحلم الكاذب( أضغاث الأحلام).
وقد سعى ابن عربي وابن خلدون إلى تفسير الأحلام وتحليلها وتقسيم أنواعها ومعرفة أسبابها ومصادرها، بينما لم يبدأ اهتمام علماء الغرب بدراسة الأحلام إلا حديثا.
يقول ابن خلدون في مقدمته في الفصل الثالث عشر تحت عنوان "علوم البشر وعلوم الملائكة":" أما أضغاث الأحلام فصور خيالية يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد المغيبة عن الحس. الفرق بين الرؤيا الصالحة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال في حالة النوم."
ومن الكتب الإسلامية المشهورة التي تناولت الأحلام "تعطير الأنام في تعبير المنام" لعالم الدين والأدب والشاعر والمتصوف عبد العزيز النابلسي(ولد في دمشق 1641م- توفي1730 م) و"التعبير المنيف والتأويل الشريف "لـ"محمد بن قطب الدين الأزنيقي" (المتوفى سنة 885 للهجرة)، وغيرها.
ما هو الكابوس؟
طغى الطابع فوق الطبيعي على تفسير الأحلام والكوابيس حتى وقت قرون متأخرة
حسب قاموس "لسان العرب" لـ"جمال الدين بن منظور" عن "الأصمعي" أن الكابوس هو:" الجُثام والجاثوم الذي يجثم على الإنسان وهو نائم." ويعرف أيضا باسم "الضاغوط" وإن كانت هذه التسمية غير شائعة.
وحسب قاموس دكتور "صامويل جونسون" الذي وضع في 1755 ويعتبر من أهم القواميس في تاريخ اللغة الإنكليزية :" هو حالة تشمل ضيق صدر وسواسيا في الليل يشبه ضغط ثقل على الصدر."
يقول الباحث في الأحلام والكوابيس أنش مايكل إي Anch Michael A في كتابه "نظرة علمية للنوم" (عام 1988):" كان الاعتقاد الشائع منذ مئات السنين وحتى أواخر القرن 18 م أن الكابوس سببه هجوم شيطان أو عفريت يجثم على صدر النائم".
ويرى الدكتور "وليام وليمز" مؤلف "موسوعة العلم الزائف" أن تفسير الكابوس (بشكليه incubus " إنكوبي" أو " succubus" " سكوبي") وفق الرؤية المسيحية في القرون الوسطى كان يركز على الخطيئة.
ويستشهد بكتاب "مدينة الله" لمؤلفه "القديس أوغسطين"( المولود في ما يعرف حاليا بـتونس) (353م -430م) وبكتاب "سوما ثيولوجيا" (="الجامع"- في الفلسفة والدين والشريعة) لــ"القديس توما الإكويني(القرن 13م) اللذين يفسران الـ"إنكوبي" (الكابوس الذي يصيب النساء) على أنه عائد لشياطين/عفاريت ترسل بقصد إغواء البشر وإيقاعهم بالخطيئة.
عند بعض علماء المسلمين ممن يعالجون بما يسمى بـ"الرقى الشرعية"، ربما تكون أسباب الكابوس نفسية أو عضوية بحتة يعرفها الأطباء، وقد تكون ناجمة عن نوع من "المس الشيطاني" يسمى بـ"المس الطائف".
الكابوس:شهوات مكبوتة؟
سيغموند فرويد اعتبر الكوابيس مثل الأحلام تعبيرا عن الشهوات المكبوتة