ضـوابط الإعجـاز الـعددي في القرآن الكريم
بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
إذا ما تتبعنا الأبحاث الصادرة في الإعجاز العددي للقرآن الكريم، نرى بأن عدداً كبيراً من الباحثين قد اعتمد في دراسته لكتاب الله تعالى على مناهج متناقضة ومتنوعة، فكانت نتائج أبحاثهم غير دقيقة، وغالباً ما تمثل مصادفات وليس معجزات!
وقد يتطور الأمر لدى آخرين إلى الاستدلال بهذه النتائج غير المستندة إلى أي أساس علمي على أحداث تاريخية أو مستقبلية، كتحديد موعد قيام الساعة، أو زوال إسرائيل، أو أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأحداث العراق وغيرها.
سوف نجيب عن الانتقادات التي يواجهها الإعجاز العددي اليوم، ونتحدث عن فوائد وأهداف المعجزة الرقمية في كتاب الله تعالى. وسوف نجيب عن سؤال مهم وهو: ما هي الضوابط الواجب على من يشتغل في هذا العلم الالتزام بها ليخرج بحثه موافقاً للعلم والشرع، وفي الوقت نفسه تكون هذه الضوابط كالميزان بالنسبة للقارئ يستطيع قياس أي بحث عددي عليها، ويقرر على ضوء ذلك قبول البحث أو رفضه. مع العلم أن معظم الأخطاء والانحرافات التي رأيناها من بعض من بحث في أرقام القرآن، ناتجة عن عدم الالتزام بمنهج علمي وشرعي.
سوف ندعم هذه الضوابط ببعض الأمثلة من كتاب الله تعالى والتي هي نموذج تطبيقي وعملي عن الإعجاز العددي الصحيح. ويجب التأكيد دائماً على أن لغة الأرقام ليست هدفاً بحدِّ ذاتها، إنما هي وسيلة لرؤية عجائب القرآن في عصر التكنولوجيا الرقمية.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في مُحكم الذكر: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، الحمد لله الذي هيّأ لنا أسباب الهداية، ووفقنا إلى تدبّر هذا القرآن، ويسّر لنا التعرّف على معجزاته التي لا تنقضي. والصلاة والسلام على من كان القرآنُ العظيمُ إمامَه وخلُقَه وشفاءَه، سيدنا ومولانا وحبيبنا محمَّد، من أكرمنا الله به وجعله شفيعاً ورحمة لكل مؤمن أحب الله ورسوله، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين وسلَّم تسليماً كثيراً. وبعد:
فقد أُثيرت شُبهات كثيرة ولا تزال حول موضوع الإعجاز العددي في القرآن الكريم، فبعضهم يعتقد أن لا فائدة من دراسة الأرقام القرآنية، باعتبار أن القرآن الكريم كتاب هداية وأحكام، وليس كتاب رياضيات وأرقام!
ومن العلماء من يعتقد أن إعجاز القرآن إنما يكون ببلاغته ولغته وبيانه، وليس بأرقامه! ويتساءل بعض القرّاء حول مصداقية كتب الإعجاز العددي ومدى صِدق النتائج التي تقدِّمها أبحاث هذا النوع من الإعجاز. والعجيب أن الأمر قد تطور لدى بعض المعارضين إلى إنكار الإعجاز العددي برمّته بسبب عدم وجود ضوابط تحكم هذا العلم الناشئ.
ولكن هل هنالك أحكام مسبقة تجاه هذا العلم بسبب بعض الانحرافات والأخطاء التي وقع بها (رشاد خليفة) أول من تناول هذا الموضوع منذ ربع قرن وغيره ممن بحثوا في هذا المجال؟
سوف نطرح جميع الانتقادات التي يواجهها الإعجاز العددي بتجرّد، ونجيب عنها بإذن الله بكل صراحة. وسوف نرى بأن الالتزام بمنهج علمي وشرعي خلال البحث عن معجزة رقمية، يؤدي حتماً إلى نتائج صحيحة ومقبولة. وسوف نرى أن معظم الأخطاء والتأويلات البعيدة عن المنطق العلمي، والتي نصادفها في كثير من كتب الإعجاز العددي، سببها بالدرجة الأولى عدم الالتزام بمنهج علمي ثابت، وعدم وجود قاعدة أو أساس متين يعتمد عليه الباحث خلال استنباطه لهذا اللون من ألوان الإعجاز القرآني.
ومن هنا تبرز ضرورة وجود ضوابط موثوقة ومقنعة للمؤمن الحريص على كتاب ربه، والذي يرفض أن يقبل شيئاً عن القرآن ما لم يكن مدعوماً بالدليل والبرهان العلمي. وكذلك هذه الضوابط ضرورية لكل من أحب أن يبحر في هذا القرآن من الباحثين والقرَّاء والمهتمين، لترافقه في بحثه أو قراءته، يصحح بها منهجه وتكون بالنسبة إليه كالدليل الواضح يقيس عليه صدق النتائج الرقمية، ليطمئن بها قلبه وينال الأجر من الله تعالى.
إن أي علم ناشئ لا بدَّ أن يتعرض في بداياته لشيء من الخطأ حتى تكتمل المعرفة فيه. وهذا أمر طبيعي ينطبق على المعجزة الرقمية القرآنية. وذلك لأن اكتشاف معجزة في كتاب الله تعالى أمر ليس بالهيِّن، بل يحتاج لجهود مئات الباحثين. وإذا ظهر لدى بعض هؤلاء أخطاء كان من الواجب على المؤمن الحريص على كتاب ربه أن يتحرَّى هذه الأخطاء ويصحِّحها لينال الأجر من الله تعالى.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يلهمنا الإخلاص والصواب، وأن يجعل في هذا البحث بداية موفَّقة لوضع الأساس السليم في الإعجاز الرقمي، وأن يجعل كل حرف فيه خالصاً لوجهه الكريم.
اللهمَّ إني أعوذُ بكَ أن أَضِلّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَلَّ،
أو أََظلمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ
تساؤلات لا بدّ منها
قد يكون من أهم الأخطاء التي يقع فيها من يبحث في هذا العلم ما يُسمّى بالترميزات العددية، أي إبدال كل حرف من حروف القرآن الكريم برقم، وجمع الأرقام الناتجة بهدف الحصول على توافق مع رقم ما، أو للحصول على تاريخ لحدث ما. وقد يكون من أكثر أنواع التراميز شيوعاً ما سُمّي بحساب الجُمّل.
حساب الجُمّل ... إعجاز أم مصادفة؟
يُعتبر هذا النوع من الحساب الأقدم بين ما هو معروف في الإعجاز العددي. ويعتمد على إبدال كل حرف برقم، فحرف الألف يأخذ الرقم 1، وحرف الباء 2، وحرف الجيم 3، وهكذا وفق قاعدة "أبجد هوّز". وتختلف هذه القاعدة من حضارة لأخرى، فنجد أن كل شعب من الشعوب القديمة يحاول أن يعطي لحروف أبجديته أرقاماً محددة لا ندري على أي أساس تم ترتيبها.
وإنني أوجه سؤالاً لكل من يبحث في هذه الطريقة: ما هو الأساس العلمي لهذا الترقيم؟ وأظن بأنه لا يوجد جواب منطقي أو علمي عن سبب إعطاء حرف الألف الرقم 1، وحرف الباء الرقم 2،... لماذا لايكون الباء 3 مثلاً؟
إن هذا الحساب لم يقدّم أية نتائج إعجازية، وإن كنا نلاحظ أحياناً بعض التوافقات العددية الناتجة عن هذا الحساب. ولكن إقحام حساب الجمّل في كتاب الله تعالى، قد يكون أمراً غير شرعي، وقد لا يُرضي الله تعالى. لذلك فالأسلم أن نبتعد عن هذا النوع وما يشبهه من ترميزات عددية للأحرف القرآنية، والتي لا تقوم على أساس علمي أوشرعي، حتى يثبُت صِدْقُها يقيناً.
ولو تابعنا الأمثلة والنتائج التي تقدمها أبحاث هذا الحساب لرأينا تناقضات عجيبة ولا نكاد نجد مثالين متشابهين تماماً! بل هنالك عدد ضخم من النتائج التي اعتمد أصحابها على طرائق متنوعة وغير منهجية، فهو يجمع ثم يطرح وبعد ذلك يقسم أو يضرب أو يضيف أو يحذف دون أي التزام بمنهج رياضي أو حتى منطقي.
فتجد أحدهم يقول إن جُمَّل كلمة (البيِّنة) هو 98 ، أي لو أعطينا لكل حرف من حروف هذه الكلمة رقماً يساوي قيمته في حساب الجمل وجمعنا الأرقام نجد العدد 98 وهذا هو رقم سورة البيِّنة في المصحف. وينطبق هذا الحساب على كلمة الحديد التي مجموع حروفها في حساب الجمَّل هو 57 وهذا هو رقم سورة (الحديد) في القرآن.
ولو أن الحال استمر على هذا المنهج لكانت النتائج مقبولة وليس هنالك أي احتمال للمصادفة، ولكن لدينا في المصحف 114 سورة، ووجود توافق ما لسورتين فقط هو أمر تتدخل فيه المصادفة بشكل كبير.
وعندما حاول بعضهم دراسة بقية السور لم تنضبط حساباته مع أرقام السور، لذلك فقد لجأ إلى تغيير المنهج وذلك مع سورة (النمل) التي رقمها في المصحف هو 27. ولكن هذه الكلمة في حساب الجمَّل تساوي 151 وهذا الرقم بعيد جداً عن رقم السورة. فلجأ هذا الباحث إلى عدد الآيات لسورة النمل وهو 93 وكان هذا الرقم بعيداً أيضاً عن جُمَّل الكلمة، فجمع رقم السورة مع عدد آياتها ليحصل على العدد 27+93 = 120 وهذا الأخير أيضاً بعيد عن قيمة الكلمة.
فحذف من كلمة (النمل) التعريف لتصبح غير معرفة هكذا (نمل)، وكانت المفاجأة بالنسبة له وجود تطابق بين جُمَّل كلمة (نمل) وهو 120 وبين مجموع رقم سورة النمل وعدد آياتها وهو 120 أيضاً. وبالتالي خرج هذا الباحث بنتيجة مفادها أن جُمَّل كلمة (نمل) يساوي مجموع رقم وآيات سورة النمل، معتبراً أن هذه النتيجة تمثل معجزة!!! ونسي أن أهم ما يميز المعجزة القرآنية هو وضوحها وأن هذه المعجزة لا تحتاج لهذه الالتفافات.
ونقول هنا: هل يُسمح للباحث بسلوك مناهج متعددة أو حذف حروف من أسماء السور للحصول على توافقات معينة؟ وهل يُسمح له أثناء تعامله مع كتاب الله تعالى أن يجمع عدد الآيات مع رقم السورة مرة، ثم يكتفي برقم السورة مرة ثم يأخذ اسم السورة كما هو مرة وفي الأخرى يحذف حروفاً من هذا الاسم؟؟
وهنا أوجِّه سؤالاً لأصحاب هذا الحساب: هل يُعقل أن الله تعالى عندما أنزل القرآن رتب حروفه وكلماته وآياته وسوره بما يناسب حساب الجُمَّل؟
مبالغات يجب الابتعاد عنها
يُلاحظ على معظم الباحثين في الإعجاز العددي أنهم يركزون بحثهم في الأرقام، ويضخّمون حجم النتائج التي وصلوا إليها، ويُغفلون بقية جوانب الإعجاز القرآني، كالإعجاز البلاغي والتشريعي، أليس في ذلك مبالغة ينبغي الابتعاد عنها؟
إن هذه الملاحظة موجودة فعلاً، ولها ما يبررها! فالبحث عن معجزة رقمية في كتاب هو القرآن لا يحوي أية معادلات أو أرقام باستثناء أرقام السور والآيات، هذه المهمة صعبة للغاية، وتتطلب من الباحث أن يكرس كل وقته وجهده وعمله لهذا البحث الشائك. وتزداد المهمة صعوبة إذا علمنا أنه لا توجد بعد مراجع أو ضوابط لهذا العلم الناشئ.
وعلى كل حال ينبغي على من يبحث في الإعجاز العددي أن يهتم ويستفيد من بقية وجوه الإعجاز القرآني، ويدرك بأن المعجزة الرقمية ماهي إلا جزء يسير من بحر إعجاز كتاب الله تعالى. ويدرك أيضاً أن الإعجاز العددي تابع للإعجاز البياني وكلاهما قائم على الحروف والكلمات. فكل آية من آيات القرآن الكريم تتميز بوجود إعجاز بياني فيها وتتميز أيضاً بوجود بناء رقمي محكم لحروفها وكلماتها.
نعم. إن المناهج الملتوية لدراسة الإعجاز العددي وإقحام حسابات وأرقام في كتاب الله لا يرضاها الله تعالى، ولا يُبتغى بها وجه الله، هذا لا يصرف المؤمن عن القرآن فحسب بل يعرضه لعقوبة القول في كتاب الله بغير علم أيضاً. أما البحث الصحيح في كتاب الله تعالى له أجر عظيم عند الحق سبحانه.
هل يمكن للبشر أن يأتوابمثل هذه الإعجازات؟
وقد يسأل من ليس لديهم الخبرة والتجربة بعدّ الحروف وإحصاء الكلمات، أليس من السهل على أي إنسان أن يركّب جُمَلاً يراعي فيها تكرار الحروف، إذن أين الإعجاز؟
في كتاب الله عزّ وجلّ نحن أمام مقياسين: مقياس لغوي ومقياس رقمي. فلا نجد أي نقص أو خلل أو اختلاف في لغة القرآن وبلاغته من أوله وحتى آخره، وفي الوقت نفسه مهما بحثنا في هذا الكتاب العظيم لا نجد أي اختلاف من الناحية الرقمية، فهو كتاب مُحكم لغوياً ورقمياً.
إن محاولة تقليد القرآن رقمياً سيُخل بالجانب اللغوي، فلا يستطيع أحد مهما حاول أن يأتي بكلام بليغ ومتوازن وبالوقت نفسه منظَّم من الناحية الرقمية، سيبقى النقص والاختلاف في كلام البشر، وهذا قانون إلهي لن يستطيع أحد تجاوزه، وهذا مانجد تصديقاً له في قول الحقّ تبارك وتعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82]. أليس في هذه الآية دعوة لتأمّل التناسق في كلام الله تعالى، وتمييزه عن الاضطراب والاختلاف الموجود في كلام البشر؟ أليست هذه إشارة غير مباشرة لتدبُّر التناسق الموجود في كتاب الله تعالى من الناحية البيانيّة والعددية؟
هذا. ودرءاً لهذه الشبهات وحرصاً على كتاب الله تعالى، فإنه لا بد من وضع مجموعة من الأسس والقواعد تكون مرتكزاً للباحثين في دراساتهم الرقمية، ووسيلة لكل من أحب أن يتأكد من صدق هذه الدراسات ليكون القلب مطمئناً ونبني عقيدتنا على أسس صلبة ومتينة.
بقلم المهندس عبد الدائم الكحيل
إذا ما تتبعنا الأبحاث الصادرة في الإعجاز العددي للقرآن الكريم، نرى بأن عدداً كبيراً من الباحثين قد اعتمد في دراسته لكتاب الله تعالى على مناهج متناقضة ومتنوعة، فكانت نتائج أبحاثهم غير دقيقة، وغالباً ما تمثل مصادفات وليس معجزات!
وقد يتطور الأمر لدى آخرين إلى الاستدلال بهذه النتائج غير المستندة إلى أي أساس علمي على أحداث تاريخية أو مستقبلية، كتحديد موعد قيام الساعة، أو زوال إسرائيل، أو أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وأحداث العراق وغيرها.
سوف نجيب عن الانتقادات التي يواجهها الإعجاز العددي اليوم، ونتحدث عن فوائد وأهداف المعجزة الرقمية في كتاب الله تعالى. وسوف نجيب عن سؤال مهم وهو: ما هي الضوابط الواجب على من يشتغل في هذا العلم الالتزام بها ليخرج بحثه موافقاً للعلم والشرع، وفي الوقت نفسه تكون هذه الضوابط كالميزان بالنسبة للقارئ يستطيع قياس أي بحث عددي عليها، ويقرر على ضوء ذلك قبول البحث أو رفضه. مع العلم أن معظم الأخطاء والانحرافات التي رأيناها من بعض من بحث في أرقام القرآن، ناتجة عن عدم الالتزام بمنهج علمي وشرعي.
سوف ندعم هذه الضوابط ببعض الأمثلة من كتاب الله تعالى والتي هي نموذج تطبيقي وعملي عن الإعجاز العددي الصحيح. ويجب التأكيد دائماً على أن لغة الأرقام ليست هدفاً بحدِّ ذاتها، إنما هي وسيلة لرؤية عجائب القرآن في عصر التكنولوجيا الرقمية.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين القائل في مُحكم الذكر: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، الحمد لله الذي هيّأ لنا أسباب الهداية، ووفقنا إلى تدبّر هذا القرآن، ويسّر لنا التعرّف على معجزاته التي لا تنقضي. والصلاة والسلام على من كان القرآنُ العظيمُ إمامَه وخلُقَه وشفاءَه، سيدنا ومولانا وحبيبنا محمَّد، من أكرمنا الله به وجعله شفيعاً ورحمة لكل مؤمن أحب الله ورسوله، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين وسلَّم تسليماً كثيراً. وبعد:
فقد أُثيرت شُبهات كثيرة ولا تزال حول موضوع الإعجاز العددي في القرآن الكريم، فبعضهم يعتقد أن لا فائدة من دراسة الأرقام القرآنية، باعتبار أن القرآن الكريم كتاب هداية وأحكام، وليس كتاب رياضيات وأرقام!
ومن العلماء من يعتقد أن إعجاز القرآن إنما يكون ببلاغته ولغته وبيانه، وليس بأرقامه! ويتساءل بعض القرّاء حول مصداقية كتب الإعجاز العددي ومدى صِدق النتائج التي تقدِّمها أبحاث هذا النوع من الإعجاز. والعجيب أن الأمر قد تطور لدى بعض المعارضين إلى إنكار الإعجاز العددي برمّته بسبب عدم وجود ضوابط تحكم هذا العلم الناشئ.
ولكن هل هنالك أحكام مسبقة تجاه هذا العلم بسبب بعض الانحرافات والأخطاء التي وقع بها (رشاد خليفة) أول من تناول هذا الموضوع منذ ربع قرن وغيره ممن بحثوا في هذا المجال؟
سوف نطرح جميع الانتقادات التي يواجهها الإعجاز العددي بتجرّد، ونجيب عنها بإذن الله بكل صراحة. وسوف نرى بأن الالتزام بمنهج علمي وشرعي خلال البحث عن معجزة رقمية، يؤدي حتماً إلى نتائج صحيحة ومقبولة. وسوف نرى أن معظم الأخطاء والتأويلات البعيدة عن المنطق العلمي، والتي نصادفها في كثير من كتب الإعجاز العددي، سببها بالدرجة الأولى عدم الالتزام بمنهج علمي ثابت، وعدم وجود قاعدة أو أساس متين يعتمد عليه الباحث خلال استنباطه لهذا اللون من ألوان الإعجاز القرآني.
ومن هنا تبرز ضرورة وجود ضوابط موثوقة ومقنعة للمؤمن الحريص على كتاب ربه، والذي يرفض أن يقبل شيئاً عن القرآن ما لم يكن مدعوماً بالدليل والبرهان العلمي. وكذلك هذه الضوابط ضرورية لكل من أحب أن يبحر في هذا القرآن من الباحثين والقرَّاء والمهتمين، لترافقه في بحثه أو قراءته، يصحح بها منهجه وتكون بالنسبة إليه كالدليل الواضح يقيس عليه صدق النتائج الرقمية، ليطمئن بها قلبه وينال الأجر من الله تعالى.
إن أي علم ناشئ لا بدَّ أن يتعرض في بداياته لشيء من الخطأ حتى تكتمل المعرفة فيه. وهذا أمر طبيعي ينطبق على المعجزة الرقمية القرآنية. وذلك لأن اكتشاف معجزة في كتاب الله تعالى أمر ليس بالهيِّن، بل يحتاج لجهود مئات الباحثين. وإذا ظهر لدى بعض هؤلاء أخطاء كان من الواجب على المؤمن الحريص على كتاب ربه أن يتحرَّى هذه الأخطاء ويصحِّحها لينال الأجر من الله تعالى.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يلهمنا الإخلاص والصواب، وأن يجعل في هذا البحث بداية موفَّقة لوضع الأساس السليم في الإعجاز الرقمي، وأن يجعل كل حرف فيه خالصاً لوجهه الكريم.
اللهمَّ إني أعوذُ بكَ أن أَضِلّ أو أُضَلَّ، أو أزِلَّ أو أُزَلَّ،
أو أََظلمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ
تساؤلات لا بدّ منها
قد يكون من أهم الأخطاء التي يقع فيها من يبحث في هذا العلم ما يُسمّى بالترميزات العددية، أي إبدال كل حرف من حروف القرآن الكريم برقم، وجمع الأرقام الناتجة بهدف الحصول على توافق مع رقم ما، أو للحصول على تاريخ لحدث ما. وقد يكون من أكثر أنواع التراميز شيوعاً ما سُمّي بحساب الجُمّل.
حساب الجُمّل ... إعجاز أم مصادفة؟
يُعتبر هذا النوع من الحساب الأقدم بين ما هو معروف في الإعجاز العددي. ويعتمد على إبدال كل حرف برقم، فحرف الألف يأخذ الرقم 1، وحرف الباء 2، وحرف الجيم 3، وهكذا وفق قاعدة "أبجد هوّز". وتختلف هذه القاعدة من حضارة لأخرى، فنجد أن كل شعب من الشعوب القديمة يحاول أن يعطي لحروف أبجديته أرقاماً محددة لا ندري على أي أساس تم ترتيبها.
وإنني أوجه سؤالاً لكل من يبحث في هذه الطريقة: ما هو الأساس العلمي لهذا الترقيم؟ وأظن بأنه لا يوجد جواب منطقي أو علمي عن سبب إعطاء حرف الألف الرقم 1، وحرف الباء الرقم 2،... لماذا لايكون الباء 3 مثلاً؟
إن هذا الحساب لم يقدّم أية نتائج إعجازية، وإن كنا نلاحظ أحياناً بعض التوافقات العددية الناتجة عن هذا الحساب. ولكن إقحام حساب الجمّل في كتاب الله تعالى، قد يكون أمراً غير شرعي، وقد لا يُرضي الله تعالى. لذلك فالأسلم أن نبتعد عن هذا النوع وما يشبهه من ترميزات عددية للأحرف القرآنية، والتي لا تقوم على أساس علمي أوشرعي، حتى يثبُت صِدْقُها يقيناً.
ولو تابعنا الأمثلة والنتائج التي تقدمها أبحاث هذا الحساب لرأينا تناقضات عجيبة ولا نكاد نجد مثالين متشابهين تماماً! بل هنالك عدد ضخم من النتائج التي اعتمد أصحابها على طرائق متنوعة وغير منهجية، فهو يجمع ثم يطرح وبعد ذلك يقسم أو يضرب أو يضيف أو يحذف دون أي التزام بمنهج رياضي أو حتى منطقي.
فتجد أحدهم يقول إن جُمَّل كلمة (البيِّنة) هو 98 ، أي لو أعطينا لكل حرف من حروف هذه الكلمة رقماً يساوي قيمته في حساب الجمل وجمعنا الأرقام نجد العدد 98 وهذا هو رقم سورة البيِّنة في المصحف. وينطبق هذا الحساب على كلمة الحديد التي مجموع حروفها في حساب الجمَّل هو 57 وهذا هو رقم سورة (الحديد) في القرآن.
ولو أن الحال استمر على هذا المنهج لكانت النتائج مقبولة وليس هنالك أي احتمال للمصادفة، ولكن لدينا في المصحف 114 سورة، ووجود توافق ما لسورتين فقط هو أمر تتدخل فيه المصادفة بشكل كبير.
وعندما حاول بعضهم دراسة بقية السور لم تنضبط حساباته مع أرقام السور، لذلك فقد لجأ إلى تغيير المنهج وذلك مع سورة (النمل) التي رقمها في المصحف هو 27. ولكن هذه الكلمة في حساب الجمَّل تساوي 151 وهذا الرقم بعيد جداً عن رقم السورة. فلجأ هذا الباحث إلى عدد الآيات لسورة النمل وهو 93 وكان هذا الرقم بعيداً أيضاً عن جُمَّل الكلمة، فجمع رقم السورة مع عدد آياتها ليحصل على العدد 27+93 = 120 وهذا الأخير أيضاً بعيد عن قيمة الكلمة.
فحذف من كلمة (النمل) التعريف لتصبح غير معرفة هكذا (نمل)، وكانت المفاجأة بالنسبة له وجود تطابق بين جُمَّل كلمة (نمل) وهو 120 وبين مجموع رقم سورة النمل وعدد آياتها وهو 120 أيضاً. وبالتالي خرج هذا الباحث بنتيجة مفادها أن جُمَّل كلمة (نمل) يساوي مجموع رقم وآيات سورة النمل، معتبراً أن هذه النتيجة تمثل معجزة!!! ونسي أن أهم ما يميز المعجزة القرآنية هو وضوحها وأن هذه المعجزة لا تحتاج لهذه الالتفافات.
ونقول هنا: هل يُسمح للباحث بسلوك مناهج متعددة أو حذف حروف من أسماء السور للحصول على توافقات معينة؟ وهل يُسمح له أثناء تعامله مع كتاب الله تعالى أن يجمع عدد الآيات مع رقم السورة مرة، ثم يكتفي برقم السورة مرة ثم يأخذ اسم السورة كما هو مرة وفي الأخرى يحذف حروفاً من هذا الاسم؟؟
وهنا أوجِّه سؤالاً لأصحاب هذا الحساب: هل يُعقل أن الله تعالى عندما أنزل القرآن رتب حروفه وكلماته وآياته وسوره بما يناسب حساب الجُمَّل؟
مبالغات يجب الابتعاد عنها
يُلاحظ على معظم الباحثين في الإعجاز العددي أنهم يركزون بحثهم في الأرقام، ويضخّمون حجم النتائج التي وصلوا إليها، ويُغفلون بقية جوانب الإعجاز القرآني، كالإعجاز البلاغي والتشريعي، أليس في ذلك مبالغة ينبغي الابتعاد عنها؟
إن هذه الملاحظة موجودة فعلاً، ولها ما يبررها! فالبحث عن معجزة رقمية في كتاب هو القرآن لا يحوي أية معادلات أو أرقام باستثناء أرقام السور والآيات، هذه المهمة صعبة للغاية، وتتطلب من الباحث أن يكرس كل وقته وجهده وعمله لهذا البحث الشائك. وتزداد المهمة صعوبة إذا علمنا أنه لا توجد بعد مراجع أو ضوابط لهذا العلم الناشئ.
وعلى كل حال ينبغي على من يبحث في الإعجاز العددي أن يهتم ويستفيد من بقية وجوه الإعجاز القرآني، ويدرك بأن المعجزة الرقمية ماهي إلا جزء يسير من بحر إعجاز كتاب الله تعالى. ويدرك أيضاً أن الإعجاز العددي تابع للإعجاز البياني وكلاهما قائم على الحروف والكلمات. فكل آية من آيات القرآن الكريم تتميز بوجود إعجاز بياني فيها وتتميز أيضاً بوجود بناء رقمي محكم لحروفها وكلماتها.
نعم. إن المناهج الملتوية لدراسة الإعجاز العددي وإقحام حسابات وأرقام في كتاب الله لا يرضاها الله تعالى، ولا يُبتغى بها وجه الله، هذا لا يصرف المؤمن عن القرآن فحسب بل يعرضه لعقوبة القول في كتاب الله بغير علم أيضاً. أما البحث الصحيح في كتاب الله تعالى له أجر عظيم عند الحق سبحانه.
هل يمكن للبشر أن يأتوابمثل هذه الإعجازات؟
وقد يسأل من ليس لديهم الخبرة والتجربة بعدّ الحروف وإحصاء الكلمات، أليس من السهل على أي إنسان أن يركّب جُمَلاً يراعي فيها تكرار الحروف، إذن أين الإعجاز؟
في كتاب الله عزّ وجلّ نحن أمام مقياسين: مقياس لغوي ومقياس رقمي. فلا نجد أي نقص أو خلل أو اختلاف في لغة القرآن وبلاغته من أوله وحتى آخره، وفي الوقت نفسه مهما بحثنا في هذا الكتاب العظيم لا نجد أي اختلاف من الناحية الرقمية، فهو كتاب مُحكم لغوياً ورقمياً.
إن محاولة تقليد القرآن رقمياً سيُخل بالجانب اللغوي، فلا يستطيع أحد مهما حاول أن يأتي بكلام بليغ ومتوازن وبالوقت نفسه منظَّم من الناحية الرقمية، سيبقى النقص والاختلاف في كلام البشر، وهذا قانون إلهي لن يستطيع أحد تجاوزه، وهذا مانجد تصديقاً له في قول الحقّ تبارك وتعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء: 82]. أليس في هذه الآية دعوة لتأمّل التناسق في كلام الله تعالى، وتمييزه عن الاضطراب والاختلاف الموجود في كلام البشر؟ أليست هذه إشارة غير مباشرة لتدبُّر التناسق الموجود في كتاب الله تعالى من الناحية البيانيّة والعددية؟
هذا. ودرءاً لهذه الشبهات وحرصاً على كتاب الله تعالى، فإنه لا بد من وضع مجموعة من الأسس والقواعد تكون مرتكزاً للباحثين في دراساتهم الرقمية، ووسيلة لكل من أحب أن يتأكد من صدق هذه الدراسات ليكون القلب مطمئناً ونبني عقيدتنا على أسس صلبة ومتينة.