ميسي برصا
كبار الشخصيات
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
النصيحــة
ننطلق في وجوبها، ووجوب تقديمها للعامة والخاصة، من قول الحق تبارك وتعالى: (وأنا لكم ناصح أمين) الأعراف:68. وقول النبي الكريم: "الدين النّصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم". رواه مسلم.
والنصيحة واحدة من الشرائع الدينية، تتدلّى من دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الذي رسمه الحق تبارك وتعالى إطاراً لحفظ كيان الأمة من تسرّب السوء إليها، وانتشار الفساد بينها، فقال لهم: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون). آل عمران:104.
وأيّ فلاح إذا قعد الدعاة والجماعات عن هذا الواجب الجلل، وسمحوا للسوء والفساد والشرّ أن يسرح ويمرح، ويعكر كل صافٍ، ويدنس كل طاهرٍ، ويقطّع أوصال كل متّفق ومجتمع، ويفرّق كل ملتئم، هذا الشر والسوء والفساد سوف يسود، ويعزّ إذا انكمش الناصحون، وانسحبت جيوش الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وخلت الساحة منهم، فماذا ننتظر ونتوقع، قال تعالى: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). المائدة:79.
إننا ندعو الأمة أن تأخذ بجد واهتمام بواجب النصح للعامة والخاصة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نحرص على ذلك أفراداً، وأسراً، ومجتمعات، وشعوباً، وحكومات، وأن نجعل ذلك أساساً في التعامل، يقوم عليه دافع الأمة، وبناؤها، لا مجرّد واجب نفقهه، أو نحصره في أفراد، لا يقوون على أدائه، ورعايته حق الرعاية، فكل فرد في الأمة حارس أمين على ثغرة من ثُغرها، وحافظ أمين حاذق لأخلاقها، وحرماتها، ومجاهد مكافح في سبيل طهرها وصفائها، إنه يجب على الجميع، ولا سيما أهل الحل والعقد، وأصحاب الرأي والعلم، والسلطة والسلطات أن يُفعّلوا دور هذا الواجب في الأمة، ويتمثلوا سنة النبي الأعظم، وآل بيته، وأصحابه الكرام في هذا المجال، وأداء هذا الواجب، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لـتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه، فلا يستجاب لكم". رواه الترمذي.
وأي عذاب في الأمة، وأي بلاء أعظم من أن ينتشر فيهم المنكر، فلا ينكر، ولا يغير، وكيف يستجيب الله تعالى لقوم غرقوا في الضلال والحرام، وأصروا على ذلك، ولم يرجعوا عنه، ولم يتوبوا منه، والله عز وجل هو القائل: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مردَّ له ومالهم من دونه من والٍ). الرعد:11.
لقد عمت المخالفات والمعاصي والمنكرات وطمّت، ودخلت كل ساحة، وغطت كل دائرة وانتشرت في كل أسرة وبيت، وفي كل حرفة وصنعة، وفي كل جماعة أو طائفة، ولقد رأت الناس قد استمرؤوا هذه الظواهر المسيئة، وتعايشوا مع هذه المخالفات المؤذية المضرّة، في الوقت الذي يشعرون بكيّاتها المحرقة، ولسعاتها المؤذية، وأضرارها الفادحة، وإنك لتسمع شكواهم في كل مكان، وتأففهم في الليل والنهار، فكل من تلقاه يشكو دهره، وكل من تصادفه يعيب زمانه، وكل من تسمع إليه يلقي باللائمة على غيره، وينسب التقصير والتفريط إلى من دونه، كأنه لا يعنيه الأمر، ويهمه هذا الشأن، في الوقت الذي يشكو كغيره، ويتأذى من هذه المنكرات مثل الآخرين من الناس.
لا بدّ والحالة هذه من إحياء واجب النصح، وإيقاظ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلقاء هذا الأمر على عاتق الجميع، كل في ناحيته، وكل في اختصاصه، وكل حسب طاقته، ولم يعد هذا الواجب من فروض الكفاية، بل أصبح من فروض العين التي يطالب بها كل مسلم، ويخاطب بها كل مؤمن ومؤمنة عملاً بقول الله تبارك وتعالى، وأخذاً بهديه الكريم: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) التوبة:71. وقوله: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) آل عمران:105. وقول النبي الكريم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم.
واستمع إلى هذا التوجيه النبوّي في وجوب رعاية جانب الأمة، وعدم التفريط في مصالحها، وذلك بالقيام بواجب درء الشر، والضرر عن الأمة، قال: "مثل القائم في حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً" رواه البخاري.
فهل الأمة إلا سفينة تسير فوق اللّجج، وهل أهل المنكر إلا معاول يريدون إغراقها، ومن يحميها من الغرق، ويحمي الجميع من الهلاك إلا أولئك الحراس القائمون على حماية السفينة، من عبث هؤلاء. فإن قعدوا عن القيام بهذا الواجب أو فرطوا فيه، فلا شك أن مصير الجميع إلى الهلاك.
وواقع المسلمين اليوم ليس بخاف على أحد، إن ما تعانيه الأمة اليوم ما هو إلا ثمرة من ثمرات ترك هذا الواجب العظيم واجب النصح، وواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن سنن الحياة، وقوانين الاجتماع وجود هذا التدافع في الحياة والأمم، يدفع الله شرّ قوم، بتأييد آخرين، قال تعالى: (ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة:51.
ولقد ضرب النبي الكريم لنا المثل بغيرنا من الأمم لنحتاط لأنفسنا، ولا نقع بمثل ما وقعوا به، فيصيبنا ما أصابهم، قال: "إن أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل، أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحلّ لك، ثم يلقاه من الغد، وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض" ثم قال: "(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون)" المائدة:78-79.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "كلا والله، لتأمرن بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم" رواه أبو داود والترمذي.
بقلم د. طارق محمد السويدان